نساء تونسيات يتظاهرن مطالبة بحقوقهن |
الحرة / من زاوية أخرى
-- لم تقتصر الأخلاق يوماً كمفهوم ناظم للسلوكيات الفردية والجمعية على مجتمع دون
آخر أو على دين دون غيره. فعبر التاريخ طور كل مجتمع وكل دين مفهومه الخاص للأخلاق
وللسلوكيات المقبولة والمشروعة فيه، كل وفقاً لظروفه الموضوعية الخاصة بما فيها
طبيعة المحيط البيئي والجغرافي علاوة على تجربته التاريخية والفكرية الخاصة وطبيعة
تفاعلاته مع الأديان والمجتمعات الأخرى، القريب منها والبعيد. من هذا المنطلق، ليس
من المستغرب على الإطلاق أن تظهر نقاط تلاقٍ واختلاف فيما يتعلق ببعض المفاهيم
والممارسات الأخلاقية بين المجتمعات والأديان، وليس من المستغرب أيضاً أن يطرأ
الكثير من التحولات والتطورات على تعريفنا للأخلاق مع تعاقب الأجيال واستمرار
تلاقح الحضارات والثقافات، وأن تبقى الأخلاق كمفهوم عرضة دائماً للتغير والتحول.
ومع دخول المفاهيم الحداثية على الخط واستنادها إلى
معطيات العلوم الموضوعية، وما صحب ذلك من تمكين للأفراد فيما يتعلق بتحديد
خياراتهم وسلوكياتهم الشخصية، تسرعت وتيرة التحولات المتعلقة بالأخلاق وبالممارسات
والسلوكيات المستندة إليها. لكن، وبصرف النظر عن الاعتراضات التي توجهها التيارات
التقليدية من خلال مؤسساتها وشخصياتها، لم يحدث ذلك بشكل اعتباطي أو عبثي، بل جاء
نتيجة تجربة تاريخية طويلة وصعبة شهدت انقلاباً كبيراً في الظروف المعاشية للأفراد
والمجتمعات. ولا يمثل هذا التحول أو الانقلاب، من ناحية أخرى، فلتاناً أو انحلالاً
أخلاقياً، كما يُقال، لكن تأقلماً طبيعياً وضرورياً مع تغيرات اجتماعية وثقافية جذرية
باتت تشكّل ثوابت جديدة للعيش في المجتمعات المعاصرة.
وبناء على ذلك، لم يعد مبرراً في هذه المجتمعات التمييز
ما بين الناس إلا على أساس تصرفاتهم في الفضاء العام المشترك، خاصة في حال انطوت
على تعدّ واضح وصريح على حقوق الآخرين، ولم يعد مبرراً للدولة بالتالي أن تدخل في
خيارات الناس المتعلقة بالملبس والمأكل والمعشر إلا في أضيق الأطر.
فمن الناحية الموضوعية والوضعية، لم يعد ممكناً لا للعرق
ولا للدين ولا للجنس ولا للميول الجنسية أن تشكل أساساً مشروعاً للتمييز القانوني،
خاصة بمفهومه السلبي. فبعد عقود طويلة من الدراسات العلمية، الميدانية والمخبرية،
بات واضحاً عدم وجود أي مبرر علمي لتفضيل عرق على عرق، أو دين على دين، أو جنس على
جنس، أو ميل على ميل. نعم، يحق للناس أن يؤمنوا بما يشاؤون، كأن يرى البعض أن
البيض أكثر ذكاءً من السود، أو أن الإسلام أفضل معتقداً من المسيحية، أو أن الرجال
قوامون على النساء، أو أن المثلية الجنسية جريمة وآفة لابد من مكافحتها، لكن تبقى
هذه الاعتقادات مجرد آراء خاصة لجماعات دون غيرها، وبالتالي لا يمكن للدولة
المعاصرة أن تتبناها كقوانين ناظمة للمجتمع بأسره، أولاً لأن ذلك يشكّل انحيازاً
لفئات بعينها على حساب أخرى وانقلاباً على مفهوم المواطنة والعدالة والمساواة،
وثانياً كونها تتناقض تماماً مع المؤشرات والأدلة العلمية. ففي حال تساوت الشروط
الأولية إلى حد ما، مثل التعليم والقوانين الوضعية والأعراف المحلية، لا يوجد ما
يمنع امرأة مسلمة سوداء مثلية الميول، على سبيل المثال، من أن تتفوق على رجل مسيحي
أبيض غيري في نشاطات ومجالات معينة مثل إدارة شركة، أو النجاح في امتحان
للرياضيات، أو العزف على البيانو. وحدها القوانين والأعراف يمكن لها أن تضع
العراقيل أمام هذه المرأة بسبب جنسها أو لونها أو دينها أو ميولها، لكن لا وجود
لأي سبب عضوي أو جيني للنجاح أو الفشل هنا.
من هذا المنطلق، ومن الناحية الأخلاقية الحداثية، لا
يوجد على الإطلاق ما يبرر للدول استمرارها في تبني قوانين تمييزية قمعية حيال
شرائح اجتماعية بعينها. فإذا كان تغيير الأعراف والتقاليد والمعتقدات أمراً صعباً
لا يتم إلا مع مرور العقود، يمكن في هذه الأثناء لقوانين جديدة أكثر انسجاماً مع
المعطيات الموضوعية المعاصرة وقيم الحداثة أن تساعد على تمهيد الطريق من خلال
تمكين شخصيات وجمعيات معينة على العمل من أجل بث وعي جديد.
ويشكّل قيام تونس مؤخراً بتبني قوانين جديدة ساوت ما بين
حق المرأة والرجل في الميراث وفي اختيار الشريك الحياتي المناسب وفي منح الجنسية
للأولاد مثالاً هاماً في هذا الصدد. وإن لم يكن من المتوقع في هذه المرحلة الباكرة
أن تنجح هذه القوانين الجديدة في وضع حدٍّ نهائي لكل الممارسات المجحفة بحق المرأة
وفي تغيير آراء كل الناس حيال هذه القضايا الخلافية، سواء في تونس أو في غيرها من
دول المنطقة، تبقى تمثل مع ذلك خطوة هامة على الطريق، خطوة ما كان يمكن لها أن
تحدث لولا استنادها إلى سياسات سابقة مرتبطة بعملية التحديث في البلد، ولولا توفر
الإرادة السياسية المناسبة لدى النخب لدفع عملية التحديث نحو الأمام.
ولعل ما يميز هذا التحول في تونس، وهو أمر لفت نظري إليه
الزميل صامويل تادرس في حديث خاص، هو قيام حكومة منتخبة ديموقراطياً بتبني هذه
القوانين، مما يعني أن إرادة التغيير هنا لا تعبر فقط عن توجهات النخب المتنفذة في
المجتمع والدولة، بل يبدو أن الوعي المجتمعي العام في هذا الصدد قد بلغ سوية معينة
سمحت لهذه العملية أن تتم بقدر كبير من التوافق ما بين الشرائح الاجتماعية والقوى
السياسية المختلفة ومابين الشعب وممثليه.
نعم، قد لا يكون ممكناً في هذه المرحلة أن تقوم دول
المنطقة باستنساخ التجربة التونسية، لكن هذه التجربة الفريدة تشير وبوضوح إلى أن
الديموقراطية لن تكون بالضرورة عائقاً أمام عمليات التحديث، كما يخشى البعض. ففي
حال توفرت الإرادة السياسية المناسبة لدى النخب، وفي حال تم التمهيد للخطوات
التحديثية في المجتمع ككل عن طريق التعليم والانفتاح الاقتصادي والتفاعل مع
المجتمعات الأخرى ونشاطات المجتمع المدني، وهذا ما شهدته تونس بشكل أو آخر عبر
العقود الماضية، يمكن لعمليات التحديث أن تمضي قدماً إلى الأمام دون أن تتعارض مع
متطلبات الدمقرطة والشفافية والمسائلة الشعبية.
ولا يحتاج المواطن في المجتمعات الحداثية لأن يكون
مقتنعاً بكل ما جاءت به الحداثة من قيم وأنماط سلوكية ومعيشية جديدة ليكون مواطناً
"صالحاً،" بل يكفيه في هذا الصدد أن يعطي للآخر ذات الحقوق التي يريدها
لنفسه، وأن لا يرى في هذه المساواة تهديداً لهويته فيحاول الالتفاف عليها من خلال
الإصرار على إيجاد وضع قانوني استثنائي خاص يميزه ويفضله عن الآخر.
إن التوصل إلى تشكيل هذه القناعة على المستوى الفكري
والنفسي هو بالذات جوهر التحدي الذي يواجهنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يرجى تجنب خطاب الكراهية والشتائم.