الأربعاء، 27 فبراير 2013

ملاحظات حول التطرّف والطائفية

الجهاديون السوريون الثلاث، زهران علوش وعيسى الشيخ وحسان عبود، الذين أطلقهم الأسد من سجن صيدنايا في بدايات الثورة ليصبحوا مؤسسي وقادة جيش الإسلام وصقور الشام وأحرار الشام على التوالي.

* طالما بقينا نتعامل مع التطرّف وكأنه ظاهرة مستحدثة ودخيلة، ومع الطائفية وكأنها ظاهرة أفرزها نظام الأسد وحسب لن يكون بوسعنا التوصّل إلى حلّ ناجع.

* المواطنة هي الهدف المنشود في مجتمعاتنا، لكنها ليست نقطة البداية.

1.
التطرّف ليس غريباً عن البيئة السورية كما يحلو للبعض أن يتصوّر ويروّج، بل هو قديم قدم التاريخ والإنسان. كما أنه ليس حصّيلة أفكار أجنبية مستوردة كما يُشاع، بل نتاجاً لظروف موضوعية محلية ومفاهيم قديمة متأصّلة يتفاعل بعضها مع ما هو جديد ومستورد ليفرز حلّة جديدة تعطيه رونقاً وربما زخماً جديداً يمكّنه من طرح نفسه من جديد على الساحة المحلية، لكنه يبقى في جوهره نتاج هذه البيئة.

الجهاديون السوريون الثلاث، زهران علوش وعيسى الشيخ وحسان عبود، الذين أطلقهم الأسد من سجن صيدنايا في بدايات الثورة ليصبحوا مؤسسي وقادة جيش الإسلام وصقور الشام وأحرار الشام على التوالي.

إن الانسجام القديم بين الطوائف والملل والقوميات والذي غالباً ما ترد الإشارة إليه في أدبياتنا ومحادثاتنا هذه الأيام كان قائماً لقرون طويلة على الفصل والحذر في التعامل والاختلاط ما بين الفئات المختلفة المكوّنة للمجتمع مع وجود ضوابط واضحة فُرضت على الجميع من قبل السلطة العثمانية القائمة، أي أنه كان انسجاماً وتناغماً طائفياً وفئوياً بامتياز، ولم يكن قائماً لا على المواطنة ولا على المساواة ولا على قبول الآخر بل على فرز ورفض متبادل وقبول بتوازنات تم تأصيلها في أنفسنا على مدى قرون من القمع والسياسة. إذن، في الظاهر كان الانسجام والقبول، لكن الباطن انطوى على الرفض والقمع وقابلية التطرّف، إن لم نقل التطرّف ذاته. 

ولم تكن تلك السنون بُعيد الاستقلال من الاستعمار الفرنسي والتي حاولنا من خلالها تطوير حسّ ما بالمواطنة كافية لتسمح لنا بذلك، وربما كانت مقاربتنا لمفهوم المواطنة المبنية على تجاهل القضايا الطائفية والقومية والمناطقية من أساسها خاطئة، فمعظم ما جرى من تطورات سياسية في البلاد لاحقاً كان في جوهره ناجماً عن هذه القضايا بالذات. وهاهي اليوم تعود لتذكّرنا بوجودها مطالبة بحلّ. لكن، وطالما بقينا نتعامل مع التطرّف وكأنه ظاهرة مستحدثة ودخيلة، ومع الطائفية وكأنها ظاهرة أفرزها نظام الأسد وحسب ولم يكن لها وجود حقيقي من قبل، لن يكون بوسعنا التوصّل إلى حلّ ناجع.

وعلينا أن لا ننسى هنا أن المواطنة هي الهدف المنشود في مجتمعاتنا، لكنها ليست نقطة البداية. فالبداية تكون من الواقع الذي نراه حولنا ومن السياق التاريخي الذي أفرزه: لذا يستحيل أن لا تكون البداية مع الطوائف والقوميات المختلفة وأن لا تأخذ بعين الاعتبار مخاوفها واهتماماتها الأساسية خصّيصاً في ضوء تجربتنا التاريخية المعاصرة وما جرى من سفكٍ للدماء خلال الأشهر المنصرمة.

إن المحاصصات الطائفية والقومية والمناطقية قادمة في مستقبلنا، ولا ضير في ذلك، إذ لا مخرج من أزمتنا دونها، وإذا كان النموذج اللبناني يخيفنا، هناك بدائل أخرى يمكننا الاستفادة منها، كما بوسعنا دائماً أن نطوّر بدائلنا الخاصة.

2.
ليس من المستغرب أن يحدونا الحنين أحياناً إلى تلك الأيام التي كانت فيها الأمور أكثر بساطة ووضوحاً في الظاهر فيما يتعلّق بالعلاقات ما بين مكوّنات دولتنا المختلفة، خاصة في ظل المخاضات العنيفة التي مررنا بها منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية ونظامها المِلَلي. لكن هذه الأيام ولّت إلى غيرما رجعة، وإن كانت رواسبها ما تزال متغلغلة فينا كما بات واضحاً عبر الأشهر الماضية. وتبقى طريقنا إلى المواطنة الحقّة مع ذلك طويلة، ولا مفرّ فيما يبدو من أن تمر عبر نظام جديد من الفصل المِلَلي (لكن ليس بالضرورة الفصل بمفهومه الجغرافي) كنوع من الهدنة المستحقّة بعد فترة من الصراع الدموي.

3.
لا يمكن وضع حدود أمام الأفكار ولا يمكن لها أن تنمو في غياب الحواضن الاجتماعية المناسبة. وما لم يكن للتطرّف حواضنه في مجتماعاتنا ما كان. لا يُحارب التطرّف إلا من خلال معالجة الظروف الاجتماعية والنفسية المولّدة له. والشرط الأول للمعالجة الناجعة في هذه الحال هو الاعتراف بوجود المرض ذاته.

4.
التطرّف ليس حكراً على طائفة أو قومية أو دين معيّن، لكن الكلام عن التطرّف في مجتمعاتنا عادة ما يُحصر في طائفة بعينها، ألا وهي الطائفة السنّية. لكن الواقع مغاير لذلك تماماً، وربما كان التطرّف الماروني في لبنان والعلوي في سوريا سبّاقاً في سياق تاريخنا المعاصر. لكن، وبصرف النظر عن موضوع الأسبقية، يبدو من الواضح أن التطرّف بات اليوم ظاهرة شديدة التوغّل، وربما التغوّل أيضاً، في كل مكونات منطقتنا ومجتمعاتنا.

5.
كون المرء ضحية لظلم ما قد يفسّر تطرّف بعض مواقفه من الناحية الأكاديمية لكنه لا يبرّرها من الناحية الأخلاقية.

6.
علينا أن ننقذ ثورتنا من التفكير العدمي، من طروحات كل شيء أو لا شيء. فبعيداً عن رومانسيات الثورة والثوّار، بات من الواضح لأي ذي عقل وبصيرة وضمير أن الوطن قد انهار وأن علينا اليوم أن نسعى لانقاذ ما يمكن إنقاذه. لقد هدفت الثورة إلى كسر حاجز الجمود لا حاجز الوجود.

7.
لا، لا يستوي المجرم والضحية، ولا، لا يمكننا تجاهل أن الروح الطائفية تبدو أكثر تأصّلاً عند الأقلّيات، أو بعض منها على الأقل، ذلك لأن ذاكراتها الجمعية ما تزال مفعمة فيما يبدو بحوادث من ماضٍ ليس عنا بالبعيد كانت فيه مهمّشة ومضطهدة. وإن كان هذا لا يبرّرما مورس ويمارس من إجرام باسمها، إلا أنه يبيّن عمق الهوة التي فصلت وماتزال مكوّنات هذا الوطن عن بعضهم البعض.

8.
إن الرؤى المثالية للماضي التي ما انفتئ الكثير من كتّابنا وشعرائنا يروّجون لها عبر العقود الماضية لم تزد عن كونها رؤى سطحية وتبسيطية  ساهمت في دفعنا على تجاهل ضرورة التعامل مع عدد القضايا المصيرية بالسرعة والحصافة المناسبة.

9.
يا ليت اجتماعات المسيحيين والعلويين التي باتت تجري أو يُعدّ لها اليوم جرت من بداية الثورة، ويا ليت لها تفرز رؤى واضحة عن الكيفية التي يتخيّل من خلالها كل من هذين المكونين كيفية التعامل مع مخاوفه وتطلّعاته في سوريا المستقبل، ولا تكتفي بإصدار بيانات مؤيّدة للثورة. إن الوضع ليس بحاجة إلى المزيد من الفقّاعات الإعلامية بل إلى رؤى جريئة ومواقف واضحة فيما يتعلّق بقضايا مصيرية مثل كيفية وسوية تمثيل الأقليات في المؤسّسات السياسية والعسكرية للدولة، ومسألة الفدرالية، وقضية الضمانات الدستورية المناسبة لضمان حقوق الأقليات، إلى غيرها من القضايا.

10.
لم يعبّر العقيد في جيش الأسد، علي خزام، في  تصريحاته الشهيرة التي بثّت على اليوتيوب قبيل مقتله والتي تحدّث فيها عن أزلية الصراع مابين السنة والشيعة وكون الثورة السورية مجرّد حلقة جديدة في هذا الصراع، لم يعبّر العقيد عن ثقافة استشراقية أو ليبرالية أو مستحدثة أو دخيلة، بل نجمت تصريحاته عن ثقافة محلّية، قديمة، راسخة، ومتأصّلة، ولقد جسّدت هذه التصريحات فيما يبدو آراء ومشاعر شريحة واسعة من أبناء وبنات الطائفة العلوية، ولهذا تعامل معظم العلويين مع الثورة كتهديد وجودي منذ بداياتها السلمية، لأن إشكالية الثورة بالنسبة لهم لم تكن مرتبطة بأساليبها المختارة بقدر ارتباطها بهدفها المعلن: التغيير.

فالتغيير في السياق السياسي السوري الحالي يعني عودة أهل السنة إلى تسلّم مقاليد الحكم في سوريا مما سيؤدي بالضرورة، بسبب الطبيعة الديموغرافية للسكان وطبيعة الثقافة السياسية السائدة، إلى تهميش العلويين. والتهميش يأتي عادة بمثابة خطوة أولى نحو الاضطهاد: هذا بالضبط ما كانت عليه الأمور سابقاً بالنسبة للعلويين في ظل الحكم العثماني: تهميش واضطهاد، على مدى قرون طويلة. قد تبدو الجرائم الشنيعة التي ترتكبها المليشيات العلوية ضد الثوار غير مفهومة في سياق الثورة بل وفي سياق تاريخ سوريا المعاصر برمّته، ولكنها تبدو "طبيعية،" إن جاز التعبير، في السياق التاريخي لعلاقة الطائفة العلوية مع المكوّنات الأخرى في المجتمع. ولايمكن لمن عانى الاضطهاد أن ينسى السياق التاريخي لذلك، بل عادة ما تتم المبالغة والتهويل في تصوير الأمور في الذاكرة الجمعية خاصة في ظل غياب، أو بالأحرى تغييب، مستمر لأية مقاربات عقلانية وأكاديمية للأمور. المشكلة اليوم أنه أصبح لدى الكثير من المجتمعات السنية في سوريا عقدة اضطهاد خاصة بهم أيضاً ونظرة للأمور مماثلة لهذه الرؤية العلوية.

ومن الواضح في هذا الصدد أن الطرح القائل بإمكانية تأسيس نظام سياسي ما قادر على تمثّل وتمثيل تطلّعات السنة والعلويين ومصالحهما أمر غير وارد بحسب هذه الرؤية للأمور التي باتت سيدة الموقف اليوم. وعلى الرغم من كل التنظيرات السياسية الرائجة في أوساطنا لم تتمكّن نخبنا المثقّفة بعد من الاتفاق على مجموعة من المفاهيم البسيطة والواضحة التي يمكن من خلالها مواجهة هذه الرؤية وتعريتها واستبدالها. والسبب هو إصرار النخب على طرح فكرة المواطنة كشعار عوضاً عن طرحها كبرامج ومفاهيم دستورية واضحة، تماماً كما يطرح الإسلاميون رؤيتهم للأمور تحت شعار "الإسلام هو الحل" أو "القرآن دستورنا."

والواقع أنّا بحاجة للاتفاق على مجموعة من الصيغ الجديدة للعيش المشترك تأخذ بالحسبان المكوّنات الموجودة على الأرض، ليس فقط من منطلق أحجامها الديموغرفية بل أيضاً من منطلق قدرتها الحقيقية على التأثير على القرارات السياسية والاقتصادية والأوضاع الأمنية والعسكرية في البلاد، علاوة على السياق التاريخي لتفاعلاتها البينية المختلفة على الأقل منذ انهيار الدولة العثمانية وبروز سوريا على أرض الواقع كدولة حديثة.

ومن المرجح أن تبقى هذه الصيغ الجديدة دون توقّعات الكثير من مثقّفينا وناشطينا المدنيين وآمالهم، لكن تقييم هذه الصيغ لابد من يتمّ في هذه المرحلة من خلال قدرتها على إيجاد أرضية مشتركة وفسحة عامة كافية للعمل المتأنّي على بناء دولة ومجتمع جديدين يتحقّق فيهما حدّ مناسب من الحرية السياسية والاجتماعية، دون أن يمنع هذا من إمكانية مراجعة هذه الصيغ بشكل دوري في المستقبل وبعد فترة "سماح" معينة.

11.
إذا كان الهدف من الثورة هو التوصّل إلى مرحلة يقتنع فيها الطرف الآخر، أي مناصري الأسد، أنهم أخطأوا بحقّنا وبحقّ الوطن وأنه لم تكن هناك لا مؤامرة ضدهم ولا من يحزنون، وينتهي بهم المطاف إلى تقبّل وجهة نظرنا فيما حدث وكيف، فهيهات. لأن هذا الأمر يتطلّب منا تحقيق نصر عسكري مطلق ضدهم، ما يعني بسط سيطرتنا العسكرية على كل شبر من تراب سوريا في وجه أية مقاومة من قبلهم حتى يستسلموا صاغرين مرغمين. لكن هذه المقاربة لا تعد عن كونها وصفة لتدمير ما تبقى من سوريا من خلال تسعير الحرب لسنين طويلة وربما عقود. ولاننسى في هذا الصدد أن الجهات الإقليمية والدولية الداعمة للأسد هي أكثر إخلاصاً في دعمها من أي جهة إقليمية ودولية داعمة للثوار، وهو الأمر الذي لن يتغيّر في أي وقت قريب.

وفي الواقع، لن نستطيع أن نغير وجهة نظر معظم من يقف في صف الأسد اليوم من علويين ومسيحيين وسنة ودروز (إلخ)، لأن موقفهم نابع من هويتهم الخاصة وتكوينهم الثقافي والنفسي الخاص، ولو لم يكن عندهم إيمان راسخ بأحقّية ومشروعية موقفهم لما اقترفوا ما اقترفوه من جرائم حتى اللحظة ولما استمرّوا في تبريرها. إن الاصرار على تغيير وجهة نظر الطرف الآخر فيما يتعلّق بالثورة وربط تعريفنا للنصر بتحقيق هذا المطلب هو بالذات ما يجعل الصراع الدائر حالياً حرباً أهلية طائفية دينية: وهو في صلبه تطرّف.

إذا كان هذا هو مفهومنا للنصر في هذا الصراع فلن ننتصر. بل بشّر جميع الأطراف بالهزيمة، وبموت الوطن. لكن وإذا ما عرّفنا النصر على أنه النجاح في كسر قبضة الأسد وصحبه على مقاليد الحكم وفرض حوار جديد وجدّي على الساحة حول كيفية إدارة البلاد بطريقة تسمح بتداول السلطة ولا تسمح لأي مكوّن أو حزب أو عائلة بعينها أن تتفرّد في التحكّم في مصير البلاد والعباد، فهذا بالذات هو النصر الضروري والممكن، ولقد أصبحنا بالفعل على قاب قوسين أو أدني من تحقيقه، وبوسعنا أن نرى ذلك جهاراً فيما لو نجحنا في إزالة غشاوة الألم والتطرّف والغضب من على عيوننا.

أما كيف سيفسّر الطرف الآخر الأمور وهل سيرى في التوصّل إلى اتفاق من النوع الذي عرضناه  أعلاه ما نراه نحن فهذا أمر مختلف تماماً، وقد لا نتفق على رؤية مشتركة للأمور ونكتب تاريخاً مشتركاً لهذه الأحداث لعقود طويلة من الزمن.

نعم من المؤلم أن لا نتمكّن من إقناع الطرف الآخر بأحقّية موقفنا وبأن ما اقترفه بحقّنا هو في الواقع تعدّي وجريمة نكراء وليس دفاعاً استباقياً عن النفس، لكنها واقعة نادرة الحدوث تلك التي تسمح لنا بذلك، لذا، علينا أن نجد طريقة لتجاوز ألمنا حتى لا نغرق في الأوهام وفي مطبّات تفكير وصراع عدمي.

12.
من الجميل أن نتخيّل ونعمل من أجل قيام عالم لا أقليات فيه ولا أكثريات بل أناس متساوون في الحقوق والواجبات ودولة وظيفتها الأساسية أن تقدم الخدمات والرعاية للجميع على حدّ سواء دون أن تكون المصدر الأساسي لهويتهم. لكن بناء العالم كهذا يتطلّب عقوداً من العمل والبناء والتوعية والمراجعة والنقد، وفي هذه الأثناء، لامفرّ لنا من الإرتكاء إلى صيغ متفقة للعيش المشترك كأقليات وأغلبيات. هذا لايعني أن نتخلّى عن حقوقنا كأفراد، لكن الاعتراف بوجود جماعات لها خصوصية معيّنة قد تشكّل أغلبية أو أقلية أمر لا مفرّ منه في المدى المنظور، وهو ليس بالضرورة شرّ مستطير، فالشرّ هنا ينبع من كيفية الطرح. إن الطرح العدمي من نوع "إما  أنا أو أنت" هو منبع الشرور كلّها.


هناك تعليق واحد:

  1. كلام موزون و توصيف دقيق و مجهود يشكر .
    هل تعتقد سيدي بأن نخبة جمعية من كل الطوائف و الأعراق قادرة إذا ما عملت متكاتفة على خلق نموذج توعوي يمكن البناء عليه ؟ و شكرا

    ردحذف

يرجى تجنب خطاب الكراهية والشتائم.