أقوال وأفكار: سجالات معاصرة بروح تنوّر قديم



في نفس الفترة الزمنية التي الذي قمت فيها بنشر خواطري على مدونة "ثورة الياسمين،" قمت أيضاً بالعمل على مدونة مختلفة ومكمّلة في آن هي مدونة "أقوال وأفكار." لكن، كانت لي في هذه المدوّنة سياسة مختلفة، فالحوار فيها دار حول أقوالٍ لمفكّرين عالميين معروفين وجاءت طبيعة الحوار إلى حد ما فلسفي الطابع. لكن الحوار بحد ذاته كان شكلياً أيضاً، أي قمت بمحاورة نفسي هنا أيضاً مستخدماً أسماء لفلاسفة معروفين من التاريخ الإسلامي كنوع من الدعوة غير المباشرة إلى إحياء نهجهم الأكثر انفتاحاً في تحليل الأمور.


دولة الأقزام
17 حزيران، 2006 / مدونة "أقوال وأفكار"

"الدولة التي تقزّم مواطنيها لكي تحوّلهم إلى أدوات مطواعة في يديها، حتى ولو كانت غاياتها نبيلة، ستجد أنها لن تقدر على تحقيق أي إنجاز عظيم بمواطنين أقزام."  --جون ستيوارت ميل، "عن الحرية" 1859


الفارابي: أعتقد أن مشكلة مجتمعاتنا المعاصرة تكمن في أن قلّة من الناس فقط أدركت المعنى الحقيقي للمواطنة.علينا أن نبقي هذه الحقيقة دائماً نصب أعيننا ونحن ندافع عن حريات شعوب مازالت أرواحها وعقولها منفتحة نحو الماضي أكثر منها انفتاحاً على المستقبل.

ابن خلدون: لكن، ألا تؤدي هذه الملاحظة إلى تبرير وجود تلك النظم السياسية والاجتماعية التي تساهم في تقزيم المواطن؟ وألا يساهم هذا الخوف من قلة الوعي عند المواطن العادي وجهله في استمرار الرغبة في الدفاع عن النظم الاستبدادية، هذه الظاهرة التي نشهدها بكثرة عند النخب الثقافية والسياسية، وعند بعض الأقليات؟

الفارابي: بالضبط. وهنا لب المشكلة. إذ كيف يمكن لنا أن نبني إحساساً قوياً وحقيقياً وواقعياً بالمواطنة في ذات الوقت الذي نرغب فيه في الدفاع عن أنفسنا ضد الاعتداءات المحتملة على حرياتنا الشخصية من شركائنا في الوطن؟ هذه مشكلة عويصة بالفعل، وأنا لا أدعي هنا أني أملك الحل المناسب.لكن، ربما كان علينا هنا أن نسمي هذه بالأحجية رقم 1 في سلسلة الأحاجي التي ينبغي علينا أن نجد لها حلاً إن أردنا بالفعل تخطي عقبة العيش في ظل نظم استبدادية وفاسدة، وعقبة العيش في مجتمعات متخلّفة عن الركب الحضاري، أو مجتمعات ما قبل الحداثة.


إيمان وشكّ
23 حزيران، 2006 / مدونة "أقوال وأفكار"

"لا يستطيع الناس أن يعترفوا، حتى في قرارة أنفسهم، بالشكوك التي تنتابهم فيما يتعلّق بمعتقداتهم الدينية.لذا، تراهم يحتفون بالإيمان الأعمى، ويخفون على أنفسهم خيانتهم الحقيقية من خلال التصريحات القوية والتعصّب الشديد."  --ديفيد هيوم، "أطروحة حول الطبيعة البشرية" 1739


ابن سينا: وغالباً ما يؤدي هذا العجز على الاعتراف بوجود هذه الشكوك المعتملة في النفوس وعلى مواجهتها إلى الانجراف نحو الغيرة الشديدة من كل أولئك الذين قدروا على المواجهة وتوصّلوا من خلالها إلى إجراء تسويات داخلية معينة وصياغة قناعات جديدة أكسبتهم ثقة بالنفس وجعلتهم يتصرّفون وفق أنماط مختلفة أكثر اتساقاً وانسجاماً مع مبادئهم الجديدة. وربما كانت هذه النزعة هي السبب المباشر لتلك الكراهية الشديدة التي يضطر الليبراليون إلى مواجهتها كل يوم.

الكندي: لكن، علينا أن لا ننسى أيضاً أن الليبراليين غالباً ما يستجلبون الأحقاد على أنفسهم من خلال إصرار بعضهم على الأقل على تحقير وتسفيه القيم السائدة في مجتمعاتهم.أي نعم، ربما كان من الصعب على المرء أن يأتي بجديد دون أن يسعى لتفسير هذا الجديد من خلال وضعه في سياق القديم ومن خلال إجراء المقارنات اللازمة التي لابد وأن تحتوي على إبراز المآخذ المناسبة على القديم التي تبرّر وتفسّر وتصبّ في صالح تبنّي ما هو جديد. لكن، هل من الضروري فعلاً أن يلعب التسفيه والسخرية من المقدسات دوراً في هذه العملية الجدلية؟

ابن رشد: شئنا أم أبينا سيلعب التسفيه دوره هنا لأن هذا الأمر مرتبط ارتباطاً مباشراً بالتكوين النفسي لبعض الشخصيات الليبرالية في لحظة معينة. وفي الحقيقة، من الواضح أن للتسفيه والسخرية من المقدسات دوراً قد يكون إيجابياً في الكثير من الحالات من حيث قدرته على تسهيل انخراط البعض في عملية المواجهة مع الشكوك وفي عملية التحوّل من معتقد لآخر، حتى في حال كون المعتقد الجديد أكثر انفتاحاً في جوهره. فالنفس الإنسانية أكثر تعقيداً من أن تُلّخص في مقاربة عقلانية صرفة للأمور. بل يبدو من الحكمة هنا أن نعترف أن العقلانية ليست مفتاح كل شيء، وإلاّ لما اختار أغلب الناس أن يتهرّبوا من مواجهة الشكوك المعتملة في أنفسهم ولجؤا إلى الغيرة والتعصّب. الإنسان ليس عقلاً فقط، ولاينبغي اختصاره في العقل، تماماً كما أن العاطفة ليست شراً مستطيراً ينبغي تحييده، فللعاطفة دورها الإيجابي أيضاً في عملية تطوّر الوعي الإنساني. لذا، يمثّل الإصرار على المقاربة العقلانية الصرفة للأمور خطئاً فادحاً في عملية الجدل، ولعل المقاربة المناسبة هي تلك التي تحاول أن تحتفر دوراً أكثر فعّالية وتأثيراً للعاطفة في عملية الجدل.


الحرية والممارسة
27 حزيران، 2006 / مدونة "أقوال وأفكار"

"عندما لا يهتم الناس بممارسة حريتهم، فهم بذلك يفسحون المجال لأولئك الذين يرغبون بالتجبّر، فالطغاة نشيطون ومثابرون ودائماً على أهبة لتكريس أنفسهم بإسم كل الآلهة، سواء كانت دينية أو رمزية، ليقيدوا الناس النوام."  --فولتير، 1694-1778


الفارابي: إذا كان لزاماً على الناس أن يتعلّموا كيف يكونوا أحراراً وكيف يمارسوا حريتهم، فهل يولدون أحراراً أصلاً؟

ابن خلدون: سؤال وجيه، وإن كان ساخراً بعض الشيء.على أية حال، من الواضح أن الشعوب لا تختار المواجهة مع حكامها إلا مرغمة. والسؤال الذي يواجهنا في الحقيقة هو: هل يحقّ لنخبة ما، لأسبابها الخاصة، والتي سيتم الترويج لها دائماً على أنها تتعلّق بالمصلحة الوطنية العامة، وقد يكون الأمر بالفعل كذلك في بعض الأحوال، هل يحقّ لهذه النخبة أن تفرض المواجهة على الشعوب، خاصة إذا كانت الغاية الحقيقية هي تحقيق الحرية والديموقراطية؟ أم، ولتفادي الوقوع في متاهات "الغاية تبرّر الوسيلة،" هل ينبغي الانتظار حتى ترغم الظروف الموضوعية الشعوب على المواجهة، ويكون عمل النخبة في هذه الحالة هو تهيئة نفسها لإدارة الوضع عند حدوثه؟

في الواقع، أعتقد أن عمل النخب والضغوط التي تمارسها، شئنا أم أبينا، هو جزء من الظروف الموضوعية التي ستؤدي، إن عاجلاً أم آجلاً، إلى المواجهة. ممارسة الحرية ومقاومة الطغيان هي عملية أكثر تعقيداً مما نعتقد. والمهم هنا، من الناحية الإخلاقية والأدبية، أن يكون المرء على أهبة الاستعداد لتحمّل أعباء الخيارات التي يحاول فرضها أو تسويقها.


الحرية والإنسانية
5 تموز، 2006 / مدونة "أقوال وأفكار"

"كل من ثمّن الحرية لذاتها يؤمن في قرارة نفسه بأن حرية الخيار، وألاّ يقوم أحد بالاختيار بالنيابة عنا، هي عنصر أساسي فيما يجعل الإنسان إنساناً؟"  --إسحاق برلين، "مفهومان للحرية" 1959


الكندي: قلة هم الأحرار في هذا العالم إذن. لكن، الغريب في الموضوع هو أن أغلب المسلمين اليوم يتبعون ملة الآباء، كما فعل القرشيون القدامى، لذا، تراهم يعاملون صاحب كل فكر جديد بذات الطريقة الرافضة حتى العظم التي عامل بها القرشيون محمداً، ولو أتيح لأغلب المسلمين اليوم أن يعيشوا قبل ألف وأربعمئة عام، لانضم جلّهم إلى معسكر قريش. فالحرية تعني التغيير والناس يكرهون التغيير. فما معنى النضال من أجل الحرية في مثل هذه الظروف؟

ابن سينا: كم هي معذبة إنسانيتنا إذن، عندما ندفنها في الصمت والخوف والقهر. لكن، إن كانت العبودية لا تليق بالبشر، لماذا يتحمّلونها إذن؟ هل رأينا أبداً مجتمعاً زاد فيه عدد الأسياد على عدد العبيد؟ ومهما بلغت قوة الأسياد، هل كان بوسعهم أبداً أن يقفوا أمام سيل غضب شعبي؟ لِمَ يتحمّل الناس الظلم إذن؟ لِمَ الصمت؟

ابن خلدون: الناس تصمت لأن الكل يحلم، لا، ليس بالحرية بل بتبادل الأدوار مع المستعبِد. عندما تكون الرغبة الحقيقية المعتملة في النفوس هي رغبة بالاستعباد، يسعى المرء عندها لخلق حيّز خاص يكون فيه هو السيد والحاكم، المنزل مثلاً، وهذا الميل لا يمكنه أن يشكّل حافزاً للثورة ضد الظلم. الناس الذين لا يعرفوا الحرية في داخلهم لا يمكنوا أن يثوروا في وجه الظلم. فالمرء يتحرّر نفسياً قبل أن يتحرّر اجتماعياً. لا يمكن للعبيد أن يثوروا من أجل الحرية، ولا يمكن للحرية أن تكون هدية. الثورات الشعبية كانت في مجملها ثورات خبز. أشك فعلاً فيما إذا كان العالم قد شهد حتى اليوم ثورة من أجل الحرية لذاتها.


الواقع واليقين
11 تموز، 2006 / مدونة "أقوال وأفكار"

"إذا كذّبنا كلّ شيء لأنه ليس بوسعنا أن نتيقّن من معرفتنا للأشياء، سنكون كمن جلس رافضاً استخدام قدميه حتى جاءه الهلاك لأن ليس عنده جناحان ليحلّق بهما."  --جون لوك 1632-1704


ابن خلدون: العلم لا يُبنى على اليقين، بل على الشك، والمستقبل لا يصنعه الحالمون بل أولئك الذين يحسنون إعادة ترتيب أولوياتهم ليفسحوا المجال للتعامل مع الواقع بحرية. فالأحلام تقيّد المرء بأغلال المبالغة في التوقعات. هذا لا يعني أن يتخلّى المرء عن حلمه بالطبع، لكن، على المرء أن يُدرك أن الأحلام بذاتها ليست خطط عمل وأنه لا يمكن لها أن تتحقّق ما لم تتوفر لها هذه الخطط. وكلّما عظم الحلم، كلما تعقّدت الخطة وزادت الحاجة إلى إعادة ترتيب الأولويات باستمرار وكَثُرَت المساومات التي لابد للمرء من أن يقوم بها على الطريق نحو تحقيق حلمه.

ابن سينا: بالفعل، العلم هو سعي حثيث ودائم نحو يقين قلّما يتحقّق. وهذا ما يفرّقه عن الإيمان ويفضّله عليه. لكن للشكّ أغلاله أيضاً، وحده الإقدام هو الذي يقطع الشكّ باليقين، وإن بقي هذا اليقين نسبياً ككلّ يقينيات البشر.

ابن سينا: على المرء أن يتذكّر في هذا الصدد، أن عباس بن فرناس لم يكتفِ بالحلم بالتحليق، بل سعى إلى ذلك بكل ما لديه من جهد وإبداع، فكاد أن يحقّق هدفه.

الكندي: إنها مشكلة بالفعل أن نرغب في تحقيق أمانينا دون عمل وجهد وسهر وتضحية، إنها عقلية طفولية إلى أقصى الحدود، وإن كانت تصيب الكبار أيضاً في الكثير من الأحيان، وإلا بماذا نفسر انتشار الأديان بأكثر أشكالها تقليدية، إن لم نقل ظلامية، حتى في أكثر العصور ازدهاراً من ناحية سطوة اليقينيات العلمية على الواقع المعاش؟ إنها ظاهرة انتظار المسيح حتى يأتي بالمعونة الإلهية، لكن، على المرء أن يكسب حظّه. وإذا ما سلّمنا جدلاً هنا بحقيقة الوحي، ألا يسأل المسلم نفسه لماذا نزل الوحي على محمد دون غيره؟ ألم يكسب محمد حقّ تلقّي الوحي بحسن سيرته وخلقه (وفق معايير ذلك الوقت على الأقل)؟ وعلى المرء أن يذكر هنا أنه لم تكن في ذلك الوقت عبادات ثابتة، لتعدد القبائل والآلهة، وبالتالي، لم تكن العبادات والطقوس هي الوسيلة الوحيدة أو الأساسية لكسب رضى الإله الواحد، أخلاق التعامل اليومية كانت أكثر الوسائل نجاعة، وماتزال. لماذا يتناسى البشر أهمية المعاملة؟ إنها المصالح بالطبع، الضيق منها والواسع.

ابن خلدون: يبدو من نافل القول أن نؤكّد على أن التغيير يتطلّب وجود خطة ما والقيام بعمل ما وعدم الركون إلى الغيبيات. لكن للشعوب مصالح، كما نوّه الكندي، أو بالأحرى للشعوب مفهومها الخاص لمصالحها، مفهوم قد يبدو لنا عار تماماً عن الصحة، لكنها تبقى مقتنعة به مالم نحدّد عناصره وطبيعته ونجد طريقة لتغييره أولاً قبل الانطلاق لتغيير الواقع. وبعد هذا كلّه علينا أن نقرّ أن للواقع سطوته على مخيّلة الشعوب، فهي حتى إن أرادت التغيير لن تجد العزيمة لذلك من تلقاء نفسها، فالعزيمة من مواصفات القادة، ومالم يكن هناك قادة، لا يمكن للتغيير أن يحدث، ومالم يتمتّع هؤلاء القادة، أو بعضهم على الأقل، بالمواصفات "الصحيحة،" لا يمكن للتغيير أن يكون إيجابياً، إلا في تلك الحالات التي يكون بها أي تغيير، مهما كان،  إيجابياً لأنه يأتي بمثابة خلط للأوراق وكسر للجمود وتحريك للأوضاع بما يسمح لطرح الخطط التغييرية وفرز الأشخاص ذوي المواصفات القيادية المناسبة مع مرور الزمن.

باختصار، علينا أن نحدّد ما يلي: ما هي مواصفات الواقع الذي نسعى إلى تغييره؟ وما هو المفهوم الخاص الذي تملكه الشعوب المعنية للواقع ولمصالحها الحالية، والذي يجعلها تبدو مستكينة إليه، مهما بدا لنا مستهجناً بل ومضراً؟ ومن ثم علينا أن نحدّد الآليات التي يمكن من خلالها كسر سلطة هذا الواقع على مخيلة الشعوب المعنية. وربما اضطررنا في هذا الصدد إلى اللجوء إلى بعض من تلك المرتكزات الغيبية التي قد لا تبدو مناسبة لنا. والسؤال هنا: إلى أي حد نرغب في التغيير، وهل نحن على الاستعداد لدفع ثمن ذلك؟

الفارابي: الرغبة في حرق المراحل وتجاوزها جميعاً بخطوة واحدة تبدو ملحّة دائماً، لكن، حتى الطيور لا تتقن التحليق قبل اتقانها للمشي. والمشكلة في تعلّم المشي أنه مملّ وصعب وغالباً ما يبدو بغير ذي صلة بالقدرة على التحليق. وكما أن للواقع سطوته، فللمجهول أيضاً هيبته، والخوض في المجهول رغبة في التيقّن من طبيعة الحقائق المطروحة يبدو دائماً كمغامرة غير محمودة العواقب، والشعوب بطبيعتها لا تحبّ المغامرة التي تبقى فيما يبدو من شيم الأفراد. أما الشعوب فتحب الأمان والاستقرار وتركن إليهما حتى إن جاءا على حساب الحريات. فللشعوب أولويات تختلف عن تلك التي يحبّذها الأفراد. ولن تغير الشعوب أولوياتها إلا بمزيج من الإكراه والإقناع وربما بعض التلاعب أيضاً. وهذا هو أسّ السياسة حتى في أكثر الدول ديموقراطية. والمشكلة هنا تكمن في أن الشعوب ليس مخطئة دائماً ولا الأفراد محقّين دائماً، وكثيراً مما يفرضه الأفراد على الشعوب يجرّ إلى الويلات ويستجرّها. فللشعوب حكمة من سكونها غالباً ما تكون أفضل من حكمة الأفراد، بصرف النظر عن النوايا، فحسن النوايا لم يكن أبداً ضمانة للنجاح. وربما كان من الأفضل في بعض القضايا أن نترك الخيار الأخير فيما يتعلّق بالتغيير وطبيعته وشموله للشعوب ذاتها، فالثمن الذي تدفعه الشعوب هو دائماً أكبر من ذلك الذي يدفعه الأفراد.


الحرب
19 تموز، 2006 / مدونة "أقوال وأفكار"

ابن رشد: الحرب، مازال البشر منقسمون في موقفهم الفكري والنفسي من الحرب منذ بدأ الخليقة (ودعونا لا نختلف على كيفية بدأها هنا)، وسيبقون كذلك. فالحرب شأنها كشأن أي نشاط بشري، لا يمكن لها أن تجمع إلا بقدر ما تفرّق، ولا أن تنفّر إلاّ بقدر ما تجذب.

لكن الحرب تبقى واقعاً بشرياً لا يمكن لأيّ منا أن يهرب منه، فهي غالباً ما تفرض نفسها علينا، كفكرة أو حقيقة واقعة، أينما كنا، وربما أكثر من مرّة في حياتنا، مهما قصرت أو طالت.

لكن، هل يمكن للحرب في عالمنا هذا أن تستمرّ إلى ما لا نهاية؟ ألا يمكن لها أن تتحوّل في ظروف معينة إلى نشاط عبثي، هذا إذا افترضنا أنها ليست نشاطاً عبثياً من الأساس؟ ألا يمكن استبدالها بوسائل أخرى، خاصة في وقت عاصرنا فيه بدايات جدية وموفّقة للنضال اللاعنفي؟ وهل من الممكن أن نقنع الناس، الذين ما يزال تجييش عواطفهم وتحريك غرائزهم أمراً سهلاً عند الكثير من الحكّام والمبشّرين، بالتحوّل إلى الأساليب اللاعنفية بالسرعة الكافية للحؤول دون تردّي الأوضاع في مناطق معينة من هذا العالم؟ أم هل نحن "مقدّرون" للحرب؟ أسئلة كثيرة، وأنا واثق أن هناك أسئلة أكثر يمكن أن نطرحها في هذا الصدد، ولكن أولاً، دعونا نستشهد ببعض الآراء في هذا الصدد.

"يشعر المرؤ هذه الأيام أن الحرب لا تحسم شيئاً، وأن الفوز بالحرب لا يقلّ كارثية عن خسارتها."  --آجاثا كريستي (1890-1976) السيرة الذاتية

"الحرب شيء بشع، لكنها ليست أبشع الأشياء. فالمستوى المبتذل والساقط لذلك الحسّ الأخلاقي والوطني الذي يرى أن لا شيء يستحقّ خوض الحروب من أجله هو أبشع بكثير. فالشخص الذي لا يملك شيئاً هو على الاستعداد للقتال من أجله، والذي لا يوجد شيء في نظره أهم من سلامته الشخصية، هو مخلوق بائس ولايملك أية فرصة ليكون حراً، مالم يتكفّل أشخاص أفضل منه بتحقيق حريته والزود عنها."  --جون ستيوارت ميل (1806-1873)


"مالفرق عند الموتي واليتامى والمشرّدين أن يكون الدمار المجنون الذي تعرّضوا له حدث باسم الشمولية أو بالاسم المقدّس للحرية والديموقراطية؟"  --المهاتما غاندي (1869-1948) "اللاعنف في الحرب والسلم"

"لا تعتقدوا أبداً، أبداً، أبداً، أن الحرب التي ستخوضونها ستكون سهلة وسلسة، أو أنه يمكن لأي أحد يقرّر القيام بهذه الرحلة الغريبة أن يقدّر قوة التيارات والأعاصير التي سيصادفها. لابد لرجل الدولة الذي يستسلم لحمّى الحرب أن يدرك أنه ما أن يعطي الإشارة بالبدء، لن يكون بعدها سيد الموقف، بل سيصبح عبداً للأحداث الغير المتوقعة والتي لا يمكن السيطرة عليها."  --وينستون تشيرتشيل (1874-1965)


ابن خلدون: الحرب شيء بشع نعم، لكن مازال بوسع بعض الحروب، مهما بدت عبثية وبشعة، أن تحسم بعض الأمور، كما فعلت الحرب العالمية الثانية مثلاً. لا أعتقد أن الإنسانية بلغت مرحلة تطور في وعيها كافية لتجنّب الحرب بأنواعها وضروبها، ولا أرى أن إدانة الحرب بشكل كامل ونهائي أمر ممكن بعد. لا مفرّ لذلك من التعامل مع كل وضع وفقاً لمعطياته الخاصة ومن ثم نقرّر ما إذا كانت الحرب مبرّرة أو "عادلة."

ابن سينا: ربما كان علينا أن نقرّر أيضاً إذا كانت هناك وسائل أخرى غير الحرب للوصول إلى ما نريد، خاصة في الحالات التي تخدم فيها الحروب مصالح الفئات المتسلّطة في المجتمع على حساب الطبقات الأخرى. ربما ومن خلال السعي المستمرّ والدؤوب لبناء مفاهيم متكاملة جديدة وموازية يمكن لنا طرح خيارات أمام الناس لا تتراوح ما بين الحرب والخنوع.

الفارابي: المشكلة تكمن في قدرة جانب واحد فقط يتصرّف بطريقة مستبدة ومتفرّدة وغير عقلانية على افتعال الحروب، أو تقديم العذر لطرف آخر، لا يقلّ عنه رغبة في الاستبداد، لافتعالها. فالسؤال الحقيقي إذن، هل توجد هناك طريقة تمكّننا من تجريد هؤلاء الأشخاص من قدرتهم على افتعال المآزق والحروب، وماهي هذه الطريقة؟

الكندي: ما لم تكن الشعوب على استعداد للوقوف في وجه كل من يتصرّف باسمها دون استشارتها أو دون أن يكون مسئولاً أمامها عن تصرفاته ونتائجها، لا يمكن لنا أن نحدّ بشكل فعّال من قدرة المغامرين والمستبدّين بالقرار على التصّرف وافتعال الأزمات واستجلاب الكوارث. لكن هذا الأمر صعب المنال حتى في الدول الديموقراطية، فكيف هو الحال مع الشعوب المجهّلة والخانعة؟


القيد والمعرفة
27 تموز، 2006 / مدونة "أقوال وأفكار"

"لا ينبغي لعصر أن يقيّد نفسه ويدبّر ليكون العصر التالي له غير قادر على تنمية معرفته، مهما كانت عرضية، وعلى تطهير نفسه من الأخطاء، وعلى التقدّم في مجال التنوير. بل سيكون هذا جريمة بحقّ الطبيعة الإنسانية التي يبقى توجهها الحقيقي هو إحراز هذا التقدّم، وسيكون رفض الأجيال المنحدرة من ذاك العصر لتلك القيود المعلنة مبرّراً لأنها صيغت بطريقة غير مناسبة بل وشريرة." --إيمانويل كانت (1724-1804)، "ما هو التنوير،" (1784)


الفارابي: للموروث قيود لا تدركها العقول، وسلطة لا تتحرّر منها الأنفس وإن شُقّت. الصراع مع الموروث بعد فترة من الاستسلام التام لسلطته معركة خاسرة، علينا أن نبدأ الخلق من جديد.

ابن خلدون: كل عصر يقيّد ما يليه، وإن لم يقصد ذلك، ما لم يجعل من الإبداع الفردي ركيزة وضرورة وواجباً. فالعصر الذهبي للإنسانية ليس حقبة غارقة في القدم والتاريخ بل اكتشافاً مايزال تائهاً في غياهب المستقبل منتظراً أن نجده ونبنيه.

الكندي: التصدّي للموروث صراع أجيال، والمعركة هنا معركة أفراد في المقام الأول، لأن الفرد هو الركيزة الأساسية للإبداع والمعرفة، وما لم يجتهد الأفراد في التصدّي للموروث، بغض النظر عن الثمن الذي غالباً ما سيكون باهظاً، سيبقى الموروث يفرض سيطرته على العقول والأنفس حتى يستيقظ الفرد فينا و ينتفض ضد عقلية الرعية والقطيع.

ابن رشد: وهل بوسعنا أن نبدأ خلقاً جديداً دون التعامل مع الموروث؟ خاصة عندما نصرّ على أن سلطة هذا الموروث على الأنفس تكاد تكون مطلقة؟

الفارابي: مقصدي كان التوضيح أن الصراع صراع أجيال، وأننا بحاجة إلى أفكار جديدة نعيد من خلالها تقييم الموروث القديم. أما فكرة الاستناد إلى المورث في محاولتنا لاستيعاب الجديد فلم تعد ممكنة في هذه المرحلة لاتساع الهوة المعرفية ما بين الإثنين، ولأن حاجتنا المادية إلى الجديد أكبر بكثير منها إلى القديم.

لكن، لا مفرّ من الاعتراف هنا من أن الحاجة المعنوية إلى استمرارية ما مع الموروث تشكّل حاجة ملحّة لها سطوة حقيقية على مخيّلتنا. فالموقف الذي أدعو إليه هو في الواقع موقف نظري بحت الهدف منه التحريض على السير في اتجاه معين، وعلى معالجة الأمور من زاوية نظر معينة. لكن تحقيق قطيعة كاملة مع القديم يبقى أمراً غير قابل للتحقيق بالمطلق، على الرغم من ضرورته.

وأنا أتكلّم هنا عن القطيعة النفسية بالتحديد، لأن القطيعة المادية قد تحقّقت إلى درجة كبيرة، ليس فقط بمفهومها السياسي أو الاقتصادي أو الإجتماعي، لكن أيضاً بمفهومها الثقافي، فآثار الحضارة المعاصرة، وهي حضارة غريبة حتى الصميم شئنا أم أبينا، موجودة في كل مكان في حياتنا وثقافتنا والأدلة أكثر من أن تعدّ وتحصى، ولعلّ في طريقنا الحالية في الملبس والمأكل والبناء خير دليل على هذا الأمر.

القطيعة المرجوة هنا هي قطيعة نفسية إذن، وهي، عند تحقّقها ستخلق فسحة نفسية كبيرة للعمل من جديد وللتفكير الخلاّق وللإبداع غير المحدود وللانفتاح على كل الثقافات الأخرى والموروث الإنساني بعامة، بما فيه الموروث الإسلامي وقبل الإسلامي، مما يجعلنا أكثر قدرة على التعامل معه بشكل أقرب إلى الموضوعية والعلمية ويسمح لنا بالمشاركة في خلق ثقافة جديدة نكون فيها أصدق مع أنفسنا ومع إنسانيتنا.


الجبر والحرية
21 آب، 2006
/ مدونة "أقوال وأفكار"

"الإنسان محكوم بأن يكون حراً، محكوم لأنه لم يخلق نفسه بنفسه لكنه مع ذلك حرّ طليق، وهو مسؤول من اللحظة التي يُلقى فيها في هذا العالم عن كلّ ما يرتكبه من أفعال."  --جان بول سارتر (1905-1980)


الكندي: لا يمكن للتجمّعات البشرية أن تقوم إلاّ على أساس تقييد ما للحريات، إن لم نقل الرغبات، فالحرية المطلقة لا تنسجم مع متطلّبات الحياة الاجتماعية. لكن، وبالمقابل، تتطلّب ضرورة تحميل المرء مسؤولية أفعاله منا أن نفترض حريته وقدرته على الخيار. والطريق الوحيد أمامنا لتفسير هذا التناقض بين الموقفين هو الاستنتاج بأن الحرية، كما القيد، أمر نسبي وأن الإنسان بجوهره محكوم بالنقصان.

ابن رشد: النقصان هو جوهر الأمور كلها حتى الإلوهة، وإلا لاكتفى الإله بنفسه. طبعاً، بوسعنا أن نحتجّ هنا بأن تفكيرنا الناقص بجوهره هو الذي يؤدي بنا إلى استتنتاجات خاطئة فيما يتعلّق بالطبيعة الإلهية، وهذه حجة لا يمكن دحضها لأن نقصاننا يجعلنا بالفعل عاجزين عن إدراك طبيعة الكمال، لكنها تدلّ بدورها على أن القبول بالإلوهة يعتمد في خاتم المطاف على الإيمان الأعمى، وعلى أنها أمر غير قابل للنقاش العقلاني.

وكذا الحرية، فقد يشعر المرء بالعبودية حتى في أكثر الدول تحرّراً، لأن نسبية الحرية ونقصاننا كبشر هو بحد ذاته قيد، لكنا دائماً نصبو نحو الكمال، بل نحو التتام.

أما القوانين، فبالرغم من ضرورتها وضرورة أن تكون عادلة ومنصفة، فهي تبقى عاجزة في الحقيقة عن تحرير أحداً، فالقوانين وجدت لتصون الحرية لا لتسبغها أو تعلّمها لأحد. الحرية في جوهرها خبرة وأحياناً حالة عقلية ونفسية.

الفارابي: لاقيد إلاّ قيد المعرفة، ولا إكراه إلاّ إكراه الضمير. والإنسان محكوم بالإلتزام بضوابط معينة كي يستمر. لكن، ما لم تكن هذه الضوابط عادلة وتأخذ بعين الاعتبار الاحتياجات والحقوق الأساسية للإنسان، المادية منها والمعنوية، فهي ستساهم في تجريده من بعض من مسؤوليته تجاه بعض من أعماله، إن لم يكن بالمعنى الإنساني والأخلاقي فبالمعنى القانوني على الأقل. لا، لا يمكن إهمال الظروف المحيطة والسياق الذي يقوم به المرؤ بفعل ما، فكما لا وجود للحرية المطلقة، لا وجود أيضاً للمسؤولية المطلقة.


الحقيقة وعشاّقها
28 آب، 2006 / مدونة "أقوال وأفكار"

"على من يبحث بجد عن الحقيقة أن يملأ عقله مسبّقاً بحبها، لأن من لا يحبها لا يمكنه أن يكابد المشقات للوصول إليها، ولن يهتمّ كثيراً إن فشل في ذلك. ولا يوجد أحد في مجتمع المعرفة ممن لا يدّعي بأنه من عشاّق الحقيقة، ولا يمكن لمخلوق عاقل أن لا يغضب ويحتجّ إذا ظُنّ به عكس ذلك. ومع هذا، قلّة هم عشّاق الحقيقة من أجل الحقيقة، حتى في صفوف أولئك الذين يقنعون أنفسهم بأنهم كذلك.

ولعلّه من المفيد هنا أن نسأل: كيف يمكن للمرء أن يعرف ما إذا كان من عشّاق الحقيقة أم لا؟ أعتقد أن هناك دليل دامغ على ذلك: أن لا يتعامل المرء مع أية موضوعة بيقين أكبر مما تستحق بناء على الأدلّة المتوفرة. فمن الواضح أن من يذهب أبعد من ذلك لا يتعامل مع الحقيقة من منطلق المحبة، ولا يعشق الحقيقة لذاتها، ولكن لغرض آخر في نفسه...

إن إسباغنا للمصداقية على موضوعة ما بأكثر مما ينبغي لها استناداً على الأدلة الداعمة لها إنما ينبع من ميولنا الخاصة في هذا الصدد، ويشكّل استهانة بمبدأ عشق الحقيقة لذاتها، تلك الحقيقة التي، تماماً كما لا يمكن لمشاعرنا واهتمامتنا أن تشكّل أدلّة عليها، لا ينبغي لمشاعرنا واهتماماتنا أن تشوّهها أيضاً."

--"مقالة عن الاستيعاب الإنساني،" جون لوك (1632-1704)، الفصل 19


ابن رشد: بالرغم من هذه المحاولة العقلانية والجميلة لجون لوك للدفاع عن الحقيقة، لكن مشكلتنا الحقيقية في هذا الصدد تبقى كامنة في قدرتنا على التبرير المستمرّ وعلى إقناع أنفسنا، ليس فقط بأنا من عشّاق الحقيقة، بل بأننا فعلاً ننظر إلى الأمور بشكل مجرّد، في حين تحرّكنا ميولنا واهتماماتنا وتعصّباتنا وتحزّباتنا. أليس الاختلاف في الأديان والعقائد، حتى في صفوف أولئك الذين ينتمون إلى مجتمع المعرفة أكبر دليل على هذا؟

الكندي: عشق الحقيقة قد يجمعنا، لكن الحقيقة ذاتها لن تجمعنا أبداً. وربما كان هذا أفضل، فالاختلاف فيما بيننا هو ما يجعل الحياة محتملة. فما معنى الحوار إذا كنا متفقين على كل شيء. ولولا الاختلاف لما كان الاكتشاف ومتعة الاكتشاف، خاصة فيما يتعلّق بالأبحاث العلمية.

الفارابي: هل غاية المعرفة فعلاً، أو هل يجب أن تكون غايتها، هي الوصول إلى الحقيقة؟ أم هل الغاية من بحثنا الدؤوب هي التوصّل إلى تسوية ما مع العالم والواقع من حولنا تسمح لنا بالعيش بأقل كمية ممكنة من الألم والتغرّب؟ هل الحقيقة هي الغاية الفعلية لمسيرتنا المتخبّطة في هذه الدنيا أم هو الانتماء؟ أم هل تفوق حاجتنا إلى حقيقة المعرفة حاجتنا إلى راحة الانتماء؟ أو هل يمكن للحاجتين أن تتكاملا؟ أو هل هما في الجوهر حاجة واحدة؟ وهل نحن على استعداد فعلاً لأن نكون منفتحين على كلّ الاحتمالات القائمة أو التي قد تكون مهما كانت مزلزلة ومدمّرة؟ هل نحن على استعداد دائم لتحمّل ثمن بحثنا المستمرّ عن الانتماء، وربما الحقيقة؟

الكندي: طالما أن البشر محكومون بالنقصان تبقى مسألة الحقيقة المطلقة أمراً خارج نطاق الحسبان. ومع ذلك، أثبتت التجارب الحياتية أن الموضوعية ممكنة، خاصة في مجال البحث العلمي، والدلائل على ذلك تحيط بنا من كل جهة هذه الأيام. لكن هذه الموضوعية والاكتشافات المؤسّسة عليها لم تسبغ بالضرورة معناً على حياتنا ولم تفسّر الغاية من وراء وجودنا. لكن هذه الملاحظة إن دلّت على شيء فعلى أن المصدر الحقيقي للمعنى يبقى كامناً فينا. وربما كان البحث الحقيقي الذي نجد أنفسنا منهمكين فيه طيلة حيواتنا هو بحث عن المعنى أكثر منه بحث عن الحقيقة. ومن هذا المنطلق، يبدو أن التوصّل إلى تسويات مناسبة لكل منا هو الهدف الأساسي لبحثنا.

ابن رشد: المعرفة تنطوي دائماً على جزء من المعنى، والمعرفة مهما كانت موضوعية لابد وأن تحتوي على تسويات ما، فالمعرفة لم تنبئنا منذ الأزل أن الأرض كروية ولم تخبرنا عن حقيقة الأمراض التي نصاب بها. ففي لحظة ما من تاريخ وجودنا في هذا الكون كنا متيقّنين من أن الأرض مسطّحة وأن سبب الأمراض هي شياطين وعفاريت قامت بالاستحواذ على أجسادنا، ثم تغيّرت المعرفة والمعتقدات والتسويات مع المزيد من البحث والاكتشافات المتعلّقة بالحقيقة والمعنى معاً.

الحاجة إلى الحقيقة إذن هي ذاتها الحاجة إلى المعنى، والحقيقة الإنسانية دائماً تبقى مشوبة بالنقصان، لأن الإنسان نفسه ناقص، وبالتالي بوسعنا أن نقول أن كل التسويات مرحلية، وكذا كل الحقائق وكل المعاني. والبحث سيبقى مستمرّاً أبد الدهر.


الحرية والعدالة
17 أيلول، 2006 / مدونة "أقوال وأفكار"

"ما أن يوضع حد فاصل ما بين الحرية والعدالة حتى يصبح الإثنان في نظري عرضة للخطر."  --إدموند بيرك، 1729-1797


ابن خلدون: لكن هذا الحد هو بالضبط ما تحاول الأنظمة الاستبدادية فرضه على شعوبها، خاصة من خلال ربط كل المساعي لتحقيق الحرية والعدالة بمواجهات مع مطامع خارجية، حقيقية أو محتملة، أو بمواجهات مع عدو داخلي، غالباً ما يشمل كل الأصوات المعارضة للحكم والمطالبة بالإصلاح. ولعلّ أفضل طريقة لمواجهة هذه المقاربة، والتي غالباً ما أثبتت نجاعتها بالنسبة للحكّام، هو الإصرار على رفض ثقافة التخوين، وعلى قبول الاختلاف، وعلى تبنّي سياسة مختلفة حيال معارك التحرير، سياسة تفرض علينا النضال أولاً ضد ظلاّمنا في الداخل لكي نصبح بعدها أكثر قدرة على مواجهة ظلاّم الخارج.

ابن سينا: لا يمكن للإنسان أن يكون حرّاً ليظلم، ولا يمكن للعبودية أن تقع في مجتمع عادل.

ابن خلدون: الحرية التي لا تصحبها العدالة ظلم، فالحرية عدالة والظلم استعباد. والقيود التي تفرضها المجتمعات على الحرية تعتبر عادلة طالما كانت غايتها تحقيق حرية الآخرين والحفاظ عليها، وفي حال نجحت فعلاً في تحقيق هذه الغاية، وإلاّ توجّب مراجعتها وتعديلها أو إلغائها.


الحرية والتخاذل – 1
23 أيلول، 2006 / مدونة "أقوال وأفكار"

"الأمر الوحيد الضروري لضمان انتصار الشر هو أن يمتنع الأخيار عن فعل أي شيء."  -- إدموند بيرك، 1729-1797


ابن رشد: التخاذل جريمة نكراء يعاقب عليها التاريخ ويدفع من أجلها المتخاذلون جزءاً كبيراً من إنسانيتهم ثمناً. فالتخاذل بطبيعته انتقاص للمقدرة الإنسانية على الإبداع والتكوين، وهو يشكّل بالتالي عائقاً كبيراً في وجه مسيرة التقدّم البشرية، وهو تفريط كبير بهدية الحرية والكرامة الإنسانية لا يقلّ خطورة وبشاعة عن جريمتي الاستبداد والقتل، بل هو الوجه الآخر لهما، والعامل المكرّس الأكبر الذي يحوّل هاتين الظاهرتين إلى جزء طبيعي من الصيرورة الإنسانية عوضاً عن أن يكونا حالة شاذة وطارئة.

ابن سينا: هناك مشكلة كبيرة هنا تتعلّق بالانطباعات التي تتكوّن عند الناس حول مفهومي الشر والخير فيما يخصّ حدثاً أو موقفاً معيناً، وبالتالي، قد يشكّل ما يراه البعض تخاذلاً موقفاً مدروساً وحكيماً عند البعض الآخر، إن لم نقل عند الأغلبية. وقد يكون هناك فشل في التواصل والحوار أو عدم قدرة على التواصل أو الحوار، لأي سبب من الأسباب، فيما يتعلّق بطبيعة الحدث أو الموقف قيد الاعتبار بين الشرائح المعنية بالأمر، مما يترك انطباعاً بالتخاذل عند البعض.

الخير والشر، الإقدام والتخاذل، آه، يا ليت المسائل كانت بمثل ذلك الوضوح واللاتعقيد الذي تصرّ عليه المبادئ العامة.

ابن خلدون: للشرائح الاجتماعية المختلفة أولويات مختلفة، والتواصل بينها من أجل توضيح هذه الأولويات وتوحيدها، أو على الأقلّ من أجل الاتفاق على أرضية مشتركة تسمح لكل شريحة بمتابعة أولوياتها، ليس بالأمر السهل على الإطلاق، بل هو لبّ المشكلة. ولعلّ أغلب الشكاوى المتعلّقة بالظلم والتخاذل والتشدّد والاحتقار والإهمال إنما يرجع إلى اختلاف الأولويات وسوء أو انقطاع التواصل ما بين الشرائح المؤسّسة للمجتمع. ولعلّ المشكلة الأكبر هنا تحدث عندما يصبح الخير في منظور شريحة ما هو شرّ مطلق في منظور أخرى.

الكندي: إذاً هل بوسعنا أن نقترح تعريفاً اجتماعياً للخير والشر، عوضاً عن التعريف الأخلاقي الطابع؟ فيكون الخير هو الخيار الذي يحقّق منفعة مشتركة ما دون التضحية بالحق الفردي، ودون التسبب بأي انتقاص للحقوق الإنسانية الأساسية لأي فئة اجتماعية أو أي فرد؟

الفارابي: تقصد أن نتبع قول يسوع فنتصرّف حيال الآخرين كما نحب لهم أن يتصرّفوا حيالنا؟ بل، ربما "ندفع بالتي هي أحسن؟" معك حق، ربما كان مفهوم الحسن والسيء أفضل بكثير من مفهوم الخير والشر. آداب التعامل هي أساس قيام المجتمعات والدول، أم القيم فستبقى دائماً موضوعاً خِلافياً لأنها ستحتوي دائماً على العقد الخاصة للأفراد الذين يؤمنون بها.


الحرية والتخاذل – 2
8 تشرين الأول، 2006 / مدونة "أقوال وأفكار"

الفارابي: في الواقع، وبغض النظر عن تعريفنا للخير والشر، وهو موضوع هام بحدّ ذاته، ولم تكن إثارته في هذا السياق عبثية على الإطلاق، تبقى مسألة الحرية العامة مرتبطة بالإرادة الشعبية، وفي هذا الصدد تحضرني المقولة التالية للقاضي الأمريكي لويس براندايس (1856 - 1941): "أعظم خطر يواجه الحرية الشعب الخامل."

لكن خمول الشعب، كما خلصنا أدناه، يبقى محكوماً باختلاف في الأولويات أو، كما خلصنا أيضاً، إلى اختلاف في تعريف مفهومي الخير والشر أو  الحسن والسيء، ما بين نخبة فكرية ما ترغب في الثورة ضد تهميشها، مهما كان عرضياً، وأخرى أكثر ارتباطاً بالسلطة وربما الشعب.

إذ غالباً ما صبّ فقهائنا جامّ غضبهم على كل من طالب بالتغيير والثورة بحجّة أن التغيير فتنة، والفتنة، كما قيل لنا، "نائمة، لعن الله من أيقظها." هذا الاصرار على الاستقرار بصرف النظر عن الثمن وعن الحرية، وعلى تحويل الاستقرار إلى قيمة إجتماعية وأخلاقية محتفاً بها، يتناقض بشكل مثير مع دعوة توماس جفرسون مثلاً إلى ثورة دورية الطابع، تحدث مرة كل عشرين سنة، بهدف الحفاظ على نظام حكم أكثر تجاوباً مع متطلّبات الشعب وأبعد ما يمكن عن القهر والظلم والجور والفساد (لأن متطلبات الله بالنسبة لهم أكثر أهمية من متطلّبات الشعب طبعاً).

وفي الحقيقة، وبغض النظر عن إمكانية تحقيق العدالة والحفاظ على الحرية من خلال ثورة دورية، إن لم نقل دائمة، كما في خطاب الكثير من المنظّرين الشيوعيين، نرى هنا كيف تمّ تحويل مفهوم التغيير والحركة إلى قيمة مناقضة لقيمة الاستقرار. وعلى الرغم من أن الشعب الأمريكي، لم يتبنّى هذا الخطاب الثوري لأحد أهم آبائه المؤسّسين، لا شكّ أن لمفهوم التغيير في الثقافة الأمريكية دور كبير في تشكيلها، خاصة على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي.

ولعلّنا نرى اليوم في ذلك الاختلاف ما بين عالمنا وعالم الغرب، وخاصة أمريكا، انعكاساً طبيعياً لهذا الاختلاف في القيم، ما بين حضارة وثقافة تتغنّى بالثبات والاستقرار وبالحفاظ على "الثوابت الوطنية،" وأخرى تتغنى بالتطوّر والتغيرّ والتحوّل والتقدم. بل الأنكى، أن النزعة التغييرية إن تم طرحها في عالمنا، فالهدف هو التغيير باتجاه الماضي، بينما يتجه باقي العالم نحو المستقبل.

والسؤال الذي أريد طرحه هنا: ماذا نفعل عندما يختار الشعب كسر حاجز الخوف والتخاذل والخمول طارحاً على الساحة بديلاً يبدو في ظاهره أنه أكثر شراً وبلاءاً من الواقع الراهن الذي ما فتئنا نشتكي منه؟


ابن خلدون: الدول لا يمكن أن تتقدّم ما لم يفرز الشارع بدائله وخياراته، بين الحين والآخر على الأقل، وربما كان هذا ما يحاول توماس جفرسون أن يقوله. ويبدو أن الطريقة الوحيدة للتعامل مع البدائل التي يفرزها الشارع هي الوقت. أما النخبة التي تخاف الشارع إلى درجة التمسّك بالوضع الراهن على الرغم من كلّ مساوئه، فهي نخبة مفلسة، ليس من المنطلق الإخلاقي بالضرورة، بل من المنطلق السوسيولوجي. إذ عندما تصل النخبة إلى هذه المرحلة من الانقطاع عن الشارع تفقد بالتالي قدرتها على التأثير عليه، مما يسمح له بأن يفرز بدائله الخاصة، مهما كانت غير مرضية ومكروهة من قبل النخبة. والمسؤولية هنا ربما تقع أكثر على عاتق الأنظمة القمعية منها على عاتق النخبة، لكن النتيجة واحدة. ومع الوقت، سيفرز الشارع بدائله، وجلّ ما يمكن للنخبة المفلسة أن تفعله هنا هو محاولة إعادة التواصل مع الشارع من جديد خلال المرحلة التالية. والتضحية في هذه الحال ليست خياراً، بل ضرورة حتمية.

ابن سينا: على الرغم من أني غالباً ما أضع يدي على قلبي كلّما تكلّم أحدهم عن الضرورات التاريخية، غير أني أجد نفسي "مجبراً" للموافقة معك فيما يتعلّق بهذا الأمر. بالفعل، وإذا ما أرادت النخبة أن تحافظ على قدرة ما على التأثير على مجرى الأمور في هذه المرحلة، وعلى استعادة مكانتها القيادية في المرحلة القادمة، عليها أن تعدّ نفسها لتقديم عدد كبير من التضحيات. وهي إن لم تفعل ذلك مختارة، ستعمد إلى ذلك مضطرة. ففي هذه الأزمنة المحمومة، إما أن تغامر وتضحّي، أو أن يُضحّى بك، حتى وأنت جالس في وسط بيتك تظن أنك قد كفيت الدنيا خيرك وشرك. لكن إيجابيات الحالة الأولى تكمن في وجود فرصة ما، مهما كانت ضئيلة على النجاة، وفي القدرة على كسب تأييد شعبي ما، وبالتالي على التأثير على مجريات الأمور، أو بعضاً منها على الأقل، نتيجة عامل الشجاعة المرتبط بالموقف – أي باختيار المواجهة في وجه كل الصعوبات والمخاطر.


الحقوق الطبيعية والأخلاق
25 تشرين الأول، 2006 / مدونة "أقوال وأفكار"

"الأسئلة المتعلّقة بالحقوق الطبيعية تبقى قابلة للوضع على محكّ الانسجام مع الحسّ الأخلاقي عند الإنسان ومع معطيات عقله."  --توماس جفرسون، وجهة نظر فيما يتعلّق بالطروحات الفرنسية، 1793


ابن سينا: نعم، فيما يتعلّق بالحقوق الطبيعية والأساسية للإنسان لا بدّ و لا مفرّ من اللجوء إلى العقل، عوضاً عن الهروب إلى المقدّس، فالهروب إلى المقدّس هو نوع من الجبر، أما الاحتكام إلى العقل فيترك المجال لقبول الرأي الآخر، وإن على مضض.

الفارابي: هل يملك الإنسان حساً أخلاقياً بالفعل، أم هل هو حسّ نفعي بحت؟ وهل يمكن للحسّ النفعي أن ينسجم مع معطيات العقل ومتطلّبات الحقوق دائماً؟

ابن سينا: ألا يمكن للحسّ النفعي أن ينسجم مع الحسّ الأخلاقي خاصة في حال اللجوء إلى العقل كحكم أكبر؟ ألا يدلنا العقل على أن الفعل النفعي هو بالذات الفعل الأخلاقي؟

ابن خلدون: أعتقد أن الأمر يتطلّب بعض الإيمان، الإيمان بأن تأجيل المنفعة السريعة لصالح المنفعة المتأخرة ولكن الأخلاقية هو الخيار الأكثر عقلانية بالفعل، إن لم يكن لصالح الفرد، فلصالح المجموع.

ابن سينا: الحقوق الطبيعية، العقل، الإيمان، الأخلاق، أجد كل هذه الأشياء مترابطة، لكني أجد أن التوفيق، أو العناية الإلهية، أيضاً ذو صلة هنا، وإلاّ لبقي التخبّط مصيرنا إلى الأبد. ولا أريد أن ألجأ هنا إلى المقدّس بمفهومه التقليدي على الإطلاق، ولكن أريد أن أترك الباب مفتوحاً لذلك العامل المجهول الذي أرى أنه يلعب دوراً هاماً في هذه المعادلة الصعبة.


الفرد والجماعة
31 تشرين الأول، 2006 / مدونة "أقوال وأفكار"

"كل أمة تسخر من سائر الأمم الأخرى، والكل محقّ."  --آرثر شوبنهاور (1788-1860)


ابن خلدون: ربما كان مفهوم الأمة أكثر المفاهيم استحقاقاً للسخرية في تاريخ البشرية، ولعلّ كل منا يدرك هذا في قرارة نفسه.

ابن رشد: هل يسري كلامك هذا على مفهوم الدولة أيضاً؟

ابن خلدون: لا، فأنا لست من أتباع المدرسة الفوضوية. الدولة مؤسّسة ضرورية، لكن عليها أن تبقى أو تصبح خدمية الطابع، فات آوان الدولة القومية.

الفارابي: لكننا في عصر المؤسّسات الدولية والشركات التي يتجاوز حدود نفوذها واهتماماتها الحدود القومية للدول والتي تتجاوز ميزانيتها السنوية الميزانيات الوطنية لعدة دول مجتمعة، ترى هل يمكن لمؤسّسات من هذا النوع أن تلعب دوراً إيجابياً فيما يتعلّق بتحقيق التقدّم والرخاء لكل شعوب العالم، أم أنها ستبقى مكرّسة لصيانة حقوق المستثمرين فيها فقط على حساب كلّ اعتبار آخر؟

ابن خلدون: أي مؤسّسة تعمل دون رقابة، ستفسد، عاجلاً أو آجلاً، والطريقة الوحيدة التي أفرزتها المجتمعات لوضع رقابة شعبية حقيقية على عمل المؤسّسات هي، على علاّتها، الصحافة. أجل، الصحافة بحدّ ذاتها مؤسّسة، لكنها مؤسّسة تعددية الطابع، ويمكن لها بالتالي أن تراقب نفسها إلى حد ما أيضاً. لكن، على المؤسّسة الصحفية أن تعمل دائماً لإيجاد حلول فعّالة لعملية التسييس المستمرّة لعملها من ناحية، ولكثرة المعلومات السطحية المتداولة هذه الأيام من ناحية أخرى.

ابن رشد: كثرة المعلومات السطحية وغير السطحية، ومسألة اندماج المؤسّسات والشركات الدولية العاملة في مجال الصحافة والمجالات الأخرى الداعمة تجارياً للمؤسّسات الصحفية، كلها أسئلة هامة هذه الأيام، في أجواء العولمة المسيطرة على كل شيء. إن مسألة الحفاظ على الحريات حتى في أكثر الدول حرية وديموقراطية، هي مسألة وعي وتنبّه وصراع مستمر. هذه معركتنا الدائمة، وثورتنا المستمرّة.


الفرد والإنكار
13 تشرين الثاني، 2006 / مدونة "أقوال وأفكار"

"بعضهم ينكر وجود البؤس بالإشارة إلى الشمس، وينكر وجود الشمس بالإشارة إلى البؤس."  --فرانتز كافكا، اليوميات (1883-1924)


ابن رشد: المهم هنا هو الانكار، فالهدف هو تبرير موقف مسبّق ما.

ابن خلدون: أو قد تكون هي مجرّد محاولة للحثّ على النظر إلى الوجه الآخر من المسألة. أو قد تكون المسألة إسلوباً تفاوضياً ما الهدف منه الوصول إلى اتفاق ما، أو التهرّب منه.

ابن رشد: لكنا نتكلم هنا عن البؤس والشمس بالذات، البؤس والشمس من وجهة نظر كاتب أدبي، وليس من وجهة نظر محلّل إجتماعي، إي أننا أمام إنسان يريد بالفعل تسليط الأضواء على مسألة بعينها، وليس مجرّد تصوير آلية تفاوضية أو تحريضية ما.

ابن خلدون: الانكار بحد ذاته آلية تفاوضية، أليس كذلك؟

ابن رشد: نعم، وهو أيضاً آلية هجومية، لكن، وهذا أهم، خاصة في سياق ثقافتنا المعاصرة، الانكار هو محاولة جادة لتبرير التمسّك بالواقع الراهن والتهرّب من مسئولية التغيير. الناس يشيرون إلى وجود البؤس طمعاً في الخلاص، لكنهم يسارعون بالإشارة إلى الشمس تهرّباً من مسؤوليتهم في كسب وصناعة هذا الخلاص.

الكندي: الانكار –  كيد المستضعفين وطريقتهم في التعبير عن حنكتهم. لا تعدم المخيلة الإنسانية أسلوباً أو وسيلة للتهرب والتملّص إلاّ واتبعتها. فالثورة خيار النخبة، ولا يتبنّاها المجتمع إلاّ بالفرض. علينا جميعاً أن نعيد قراءة تاريخ الثورة الفرنسية، فهي لم تبدأ بحادثة الباستيل كما يحلو لبعضنا أن يعتقد، وإن كان الوعي الشعبي والتاريخي بها يبتدأ انطلاقاً من هذه الحادثة.

ابن رشد: لا شكّ في أن هناك فترة تحضيرية نخبوية الطابع لأي عملية تغيير شعبية، لكن كسر حاجز الخوف وهزيمة آلية الانكار لا يتحقّقا بالضرورة عن طريق الفرض، ولا عن طريق التحريض المباشر، بل عن طريق العدوى. الناس ترغب في التغيير، وترغب به في العمق، لكن الخطوات الأولى لا يمكن لها أن تتم بشكل شعبي مباشرة، بل تتطلّب دوراً طليعياً وريادياً لمجموعة صغيرة قد لا تشكّل نخبة بالمعنى الفكري بالضرورة. وفي الحقيقة أنا أفضّل الاعتماد هنا على مفهوم المجموعة الصغيرة أو الخلية الريادية عوضاً عن مفهوم النخبة الذي غالباً ما يثير تداعيات ذهنية ونفسية غير مناسبة.

المهم، يمكن لنشاطات هذه المجموعة الصغيرة أو الخلية الريادية أو العينة الثورية، أن تثير رغبة في التقليد عند الناس في حال تحقّقت شروط معينة تتعلّق بالرسالة والنشاطات والشخصيات قيد الاعتبار، وبعوامل أخرى مثل التوقيت أيضاً، إلى آخر ما هنالك.


الرعاع – 1
15 كانون الثاني، 2007 / مدونة "أقوال وأفكار"

"الفقر بحد ذاته لا يحوّل الناس إلى رعاع، فالرعاع لا يبرزون إلى حيّز الوجود إلا عندما تنضم إلى الفقر عقلية معينة: حقد داخلي موجّه ضد الأثرياء، ضد المجتمع، ضد الحكومة."  --جورج ويليام فريدريك هيجل، فيلسوف ومخترع ألماني، 1770-1831


ابن رشد: من الواضح أن الأنظمة السياسية والنظم الاجتماعية السائدة في منطقتنا هذه الأيام تدفع باستمرار واطراد باتجاه انتاج واسع للرعاع. لكن، من هم الرعاع؟ وإلى أين يمكن أن يؤدي تنامي أعدادهم في مجتمعاتنا؟ وهل يعد إنتاج الرعاع أمراً سلبياً على الإطلاق، أم هل نحن بحاجة إليهم من أجل دفع عملية التغيير إلى الأمام؟ هذه ليست بالأسئلة السهلة بالطبع، لذا دعونا نعالجها كل على حدة، مبتدئين بأولها: من هم الرعاع؟

ابن خلدون: يتضح من النص أعلاه أن الرعاع عند هيجل هم الفقراء الحاقدون. لكن الحقد بالطبع لا يأتي من الفراغ، بل ينتج عن إحساس ما بالغبن، وعن واقع ملموس جوهره سياسات إهمال وإفقار واستبداد واضحة وصريحة وطويلة الأمد، إلى حد يجعلها تبدو مقصودة ومدروسة، وقد تكون بالفعل كذلك في بعض الأحيان.

الظلم الممنهج إذاً، سواء كان المنهج نابعاً عن سياسات مدروسة أو عفوية، وغالباً ما ينتج الأمر عن خليط من الإثنين، هو السبب الحقيقي وراء ظهور الرعاع. ولا شك أن للجهل دوره الكبير في هذا أيضاً، لكن مفهومنا للجهل هنا لا ينبغي أن يكون مقصوراً على المفهوم التقليدي المنحصر بالأمية وعدم إتمام مرحلة التعليم الأساسي، إلى آخر ما هنالك، بل يجب أن يشمل مفهومنا للجهل في هذه الحالة انتشار الثقافة الاستهلاكية الطابع وتغلغلها في الوعي العام لفئات المجتمع المختلفة. فهذه الثقافة تسمح بنشر رؤية تبسيطية للكثير من الحقائق والوقائع الهامة المحيطة بنا والمؤثرة في حياتنا من خلال معالجتها للمعرفة بشكل عام وكأنها نوع آخر من البضائع القابلة للتسويق الواسع وفق الوسائل والأدوات المتبعة مع كل أنواع البضائع الأخرى.

باختصار إذاً، الرعاع ظاهرة أكثر انتشاراً مما نعتقد. وقد لا نبالغ عندما نقول أننا في غالبيتنا قد نكون من الرعاع.

الكندي: الرعاع هم حصيلة طبيعية لظلم وإهمال تمّت منهجتهما من خلال انتشار ثقافة نخبوية وإقطاعية من جهة وثقافة استهلاكية من جهة أخرى. فرعاعنا بالذات هم حصيلة تلاقح مستمرّ لأسوأ ما في مجتماعاتنا التقليدية وأسوأ ما في المجتمعات الغربية الحداثية. إن عملية "ترعيعنا" أو "طلبنتنا" هي الظاهرة الأكثر تعبيراً عن انهيار البنى الاجتماعية في دولنا المعاصرة، وعن فشل دولنا، لأسباب عدة، في التعامل الفعّال مع التحديات التنموية الأساسية التي تواجهنا.

الفارابي: ولكن، دعونا لا ننسى هنا أن للرعاع دورهم الأساسي في بناء المجتمعات أيضاً، فلقد كان لهم دور كبير في الفتوحات الإسلامية، وبناء الأهرام، على سبيل المثال لا الحصر. فالترعيع إذاً لا يشكّل ظاهرة سلبية على الدوام. إن عمليات التعبئة الشعبية تستند وبشكل أساسي على قابلية تذويب الوعي الفردي في بوتقة جماعية أكثر انصياعاً وطواعية. والسؤال الحقيقي هنا: هل يمكن القيام بأية عملية بناء واسعة النطاق دون اللجوء إلى الترعيع والتعبئة؟

ابن رشد: ولكن، هل يمكن للرعاع أن يلعبوا دوراً إيجابياً في التحوّلات الديموقراطية؟ هل يمكن النظر إلى الحشود التي تشكّلت وشاركت في المظاهرات التي مهّدت الطريق إلى الثورات المخملية في مختلف أنحاء أوروبة الشرقية مثلاً على أنها تحرّكات رعاع؟

ابن سينا: قد يكون الكثير من الأشخاص الذين شاركوا في الثورات المخملية في أوروبة الشرقية وغيرها من الفقراء، لكن الثورات بحدّ ذاتها لا تنمّ عن حقد طبقي، وهو الشرط الآخر في تشكيل طبقة الرعاع، كما أوضح هيجل. لذا، لا أعتقد أن صفة الرعاع تنطبق على هذه الحشود، ولا أعتقد أن الثورات المخملية ممكنة في حال مشاركة الرعاع.

ابن خلدون: لا يمكن للتغييرات الاجتماعية الكبيرة أن تقع دون مشاركة جميع الطبقات المتضرّرة من الوضع الراهن. لكن، من الطبيعي أيضاً أن التغييرات لا تبدأ ولا تُدار (بنجاح) إلا بإشراف نخبة ما، وهذه النخبة لا يمكن أن تتكوّن من الرعاع، لكنها لا يمكن أن تنجح في كل مساعيها دون التواصل مع الرعاع، فالرعاع قد تقلب الموائد على النخبة التي تزعّمت عملية التغيير من خلال عمل نخبة مضادة تسعى للاستيلاء على العملية التغييرية وتجييرها لصالحها الخاص. هذه هي إحدى المخاطر الأساسية للدينامية الثورية.


التقدم والثورة
31 كانون الثاني، 2007 / مدونة "أقوال وأفكار"

"لا يمكنك أن تؤسّس لديموقراطية من خلال القيام بثورة، بل يجب عليك أن تحظى بالديموقراطية لتقوم بثورة."  --ج. ك. تشسترتون (1874-1936، شاعر وروائي وناقد إنكليزي من أصل جابوني)

"لم تنجح الثورات أبداً في تخفيف عبء الظلم، بل اكتفت في زحزحته من كتف إلى آخر."  --جورج برنارد شو (1856-1950، ناقد أدبي أيرلندي)

"عندما تكون الديكتاتورية واقعاً، تصبح الثورة حقاً." --فيكتور هوجو (1802-1885، شاعر وروائي فرنسي)

"في الثورة هناك نوعان من الرجال فقط: أولئك الذين يسبّبونها، وأولئك الذين يتكسّبون منها."  --نابوليون بونابارت (1769-1821، جنرال وإمبراطور فرنسي)

"هناك قوتان اثنتان تشكلان العدو الأسوأ للحرية المدنية: الملكية المطلقة والثورة."  --جون آكتون (1834-1902، مؤرّخ بريطاني)

"اجعلوا من الثورة أماً للتسوية وليس حاضنة لثورات مستقبلية."  --إدموند بورك (1729-1797، فيلسوف وسياسي بريطاني)


ابن رشد: انقسمت آراء المفكّرين عبر التاريخ فيما يتعلّق بموضوع الثورة، فمنهم من دافع عن النهج الثوري بكل عنفوان من منطلق الإيمان المطلق بحتميته وضرورته للتقدم الإنساني، خاصة في مواجهة الظلم والفساد، ومنهم من عارضه بكل قواه، مندّداً بوسائله، مشكّكاً بنوايا قادته، ومقلّلاً من قدرته على تحقيق الأهداف المرجوّة. فهل يمكن للثورات المخملية أن تقلب هذه المعادلة وتحسم هذا النقاش؟ أم هل تبقى الثورات إشكالية بجوهرها، ويبقى الإصلاح، عند البعض، الآلية الأمثل للتغيير الاجتماعي والسياسي؟

ابن خلدون: الثورات هي الثورات، وبعض إشكاليتها الأساسية لا تختلف وإن اختلفت الوسائل المعتمدة. والإشكالية الأساسية التي تبقى مع اختلاف المنهج الثوري هو عدم قدرة الثورات على تحقيق الكثير من الآمال والتوقّعات المبنية عليها. ومع ذلك، فلا شك أن لنبذ العنف الثوري دور كبير في الحفاظ على قدر كاف من اللحمة الاجتماعية لمنع انهيار الدولة والمجتمع، وهذا بحد ذاته إنجاز كبير، وفيه انتصار كاف لمبدأ الثورة السلمية، أو المخملية، أو الياسيمنية.

أما فيما يتعلّق بالدور التاريخي للثورات، وضرورته، حتميته ووقعه وعلاقته بتقدم أو تأخّر مسيرة التقدم الإنساني، فهذا سؤال عويص، لكني أميل إلى الاعتقاد بضرورة الثورة في وجه الظلم، وربما بغض النظر عن الثمن اللحظي والنتائج المباشرة، بل والوسائل المستخدمة، الجمود الاجتماعي والاستكانة إلى الواقع الراهن أكثر ضرراً من أي ثورة، حتى وإن كانت عنفية الطابع. الاستكانة الاجتماعية موت ثقافي وحضاري، أما الثورة فعلامة مخاض.

الفارابي: الثورات تحلّ مشكلة واحدة فقط: مشكلة الجمود السياسي والاجتماعي. لكنها وفي أحسن الأحوال، لا تشكّل إلاّ بداية لحل المشكلات الأخرى، خاصة التنموية منها.

الكندي: كل حركة للتغيير الاجتماعي عرضة للتلاعب من قبل حفنات الوصوليين المتناثرة في كل طبقات المجتمع، ولا شكّ في أن الثورات، بسبب طبيعتها الحركية المتسارعة والمعقّدة والشائكة، أكثر عرضة لتلاعب الوصوليين وتكالبهم على المكاسب المحتملة. لكن لا ينبغي لهذا أن يشكّل حاجزاً أمام اللجوء إلى الثورات إذا كان حجم التغيير المرغوب والجمود الذي ينبغي كسره أكبر من أن تتمكن مطالبات بسيطة بالاصلاح أن تحقّقه إذا ما تمت الاستجابة لها. كل الثورات التاريخية كانت ضرورية وإلاّ لما حدثت. بالفعل، لا وجود في التاريخ لثورات عبثية، فالشعوب لا تتحرّك عبثاً، بل تتحرّك فقط عندما لا يكون هناك مناص. وإلاّ لوقعت الثورات كل يوم، ولأفنت الإنسانية نفسها منذ آلاف السنين. العبثية من شيم الأفراد. وربما تلوِّث العبثية بعض الأحداث الجمعية أيضاً، ولكن في لحظات ومواقف معينة فقط: أي قد تطرأ بعض الأحداث العبثية الطابع في ثورة ما، لكن هذا لا يعني أن الثورة كلها عبثية.

ابن سينا: الثورات ضرورة على عبثية بعض التطورات المتعلّقة بها. المشكلة الحقيقية تكمن في العنف. والعنف، كما أثبت لنا العصر الجديد، ليس ضرورة ولا شرطاً لقيام الثورات ونجاحها، وهذا هو بيت القصيد. إن من كرهوا الثورات كرهوها لعنفها، فإذا ما تمّ تحييد العنف وعزله، زالت الغالبية العظمى من اعتراضاتهم على الثورة. الثورة اللاعنفية هي الوسيلة التي يمكن من خلالها جني مكاسب أكبر من تلك المرتبطة بالثورات التقليدية، وهي النموذج المطلوب احتذائه اليوم.


عن الديموقراطية
15 نيسان، 2007 / مدونة "أقوال وأفكار"

"الحسد أساس الديموقراطية."  --برتراند راسل (1872-1970)، فيلسوف بريطاني

"كل مساوئ الديموقراطية يمكن معالجتها من خلال المزيد من الديموقراطية."  --ألفرد إيمانويل سميث (1873-1944)، سياسي أمريكي 

"الديموقراطية هي أسوأ نظام للحكم، باستثناء كل تلك الأنظمة الأخرى التي تمت تجربتها بين الحين والآخر."  --وينستون تشرتشيل (1874-1965)، رئيس وزراء بريطاني محافظ

"لا تدوم الديموقراطية طويلاً، بل سرعان ما تستهلِك وتنهِك وتقتِل نفسها. لم توجد ديموقراطية قط إلا وانتهى بها الأمر إلى الانتحار."  --جون آدمز (1735-1826) الرئيس الثاني للولايات المتحدة


"إن قدرة الإنسان على أن يكون عادلاً تجعل الديمقراطية ممكنة، لكن نزوعه للظلم يجعل الديمقراطية ضرورية."  --راينولد نيبور (1892-1971)، لاهوتي أمريكي


ابن خلدون: لقد أثبت تاريخ أمريكا نفسه بأن الديموقراطية أكثر ديمومة مما نعتقد، فهي نظام قادر على تطوير ذاته. لكن الديموقراطية لا تُكسب الدول مناعة ضد الغزو أو الانهيارات الاقتصادية والاجتماعية، فلمثل هذه الظواهر أسبابها وموجباتها الكثيرة والمعقدة والتي لا علاقة لها بالضرورة بقصور الديموقراطية ومساوئها.

الفارابي: مجتمعاتنا باتت أكثر تنوّعاً من أن تحكمها فئة واحدة، أو أن تتأسّس على إيديولوجية معينة. نحن بحاجة إلى طريقة لحفظ حقوق الجميع، ولتداول الحكم، ولطلب العدل بوسائل وآليات لاعنفية. والديموقراطية على علّاتها وقصورها هي الطريقة الوحيدة التي أفرزتها العمليات والصيرورات التاريخية وأثبتت نجاعتها في هذا الصدد. لقد أصبحت الديموقراطية ضرورة ملحّة، والمعاندة في هذ الشأن تنمّ عن حنين إلى ماض لن يعود، بل لا يجب أن يعود، وتمسّك بواقع عقيم، لا خير فيه إلاّ للظالم أو الفاسد.

الكندي: الديموقراطية هي التعبير السياسي المؤسّساتي لقيم التسامح التي طالما تحدثنا عنها. لست أدري لم استغرقنا آلاف السنين لكي نصل إليها، لكنها الآن هنا وقد عرفناها فلا يجب أن نتخلّى عنها أبداً. الديموقراطيات ليست مدناً فاضلة، ولن تكون، لكنها كينونات قادرة على تقدمة آليات للاصلاح المستمر ولتصحيح المسيرة التاريخية للشعوب بشكل سلمي ودوري.

ابن خلدون: قوة الديموقراطية تكمن في استناد منطقها الأساسي على التجارب الحياتية أكثر منه إلى الدراسات الأكاديمية، لذا، يخطأ من يعتقد بأن الديموقراطية تتطلّب وعياً خاصاً يزيد عما يوجد عند عامة الناس. إن فقدان القدرة أو الرغبة في التواصل مع عامة الناس يجعل بعض الفئات النخبوية الطابع تشكّك في ضرورة الديموقراطية والحاجة إليها، وتأخّر وتبرّر تأجيلها إلى ما لا نهاية. وفي هذا دليل على إفلاس هذه النخب وافتقارها إلى الوعي القيادي المناسب لإدارة العملية الانتقالية نحو الديموقراطية. المشكلة الحقيقية في الدول والمجتمعات الاستبدادية تكمن في النخب وليس في عامة الناس.