تقاسيم على أوتار التنوع والثورة


مدونة قصيرة الأمد استمرت من شباط إلى تشرين الأول 2006، وكانت مكرسة إلى مواضيع سياسية وثقافية عامة.


فوضى العالم الجديد
13 تشرين الأول، 2006 / النسخة الإنكليزية

أهم صفة للعالم الجديد الذي نراه يتشكّل من حولنا هو ذلك الافتقار الدولي المريع للقادة والرؤى المستقبلية القادرة على كسب ثقة الناس وعلى تحفيزهم للعمل الجاد من أجل بناء حياة أفضل. وبالتالي نرى كيف تم اسناد المهمّة المعقّدة لإدارة هذه المرحلة الانتقالية الضرورية في تاريخ الإنسانية، والتي بدأ الناس يستوعبون من خلالها المعاني والمضامين الحقيقية لوحدتهم وتكاملهم، لمجموعة من الشخصيات المحلية والإقليمية والعالمية المتواضعة في مقدراتها وصفاتها والتي تفتقر إلى المخططات والاستراتيجيات الضرورية للتعامل مع متطلّبات وتحدّيات هذه المرحلة الحاسمة.  ولهذا، يبدو أننا مضطرون إلى تبنّي مسيرة متخبّطة ستأخذنا من أزمة إلى أخرى ومن حرب إلى أخرى، بداعٍ وبلا أي داع، حتى تخرج الأمور عن سيطرتنا كلية ونجد أنفسنا منغمسين في غمار حرب عالمية جديدة ستشكّل ذاكرتنا الجمعية للقرون المقبلة.

التغيير آت حقاً آت
30 أيلول، 2006 / النسخة الإنكليزية

إذا ما وقعت المنطقة من جديد في فخ الحرب، فسيكون لجميع الأطراف حصّتهم الخاصة من اللوم. ففي هذا الصدد لا ينبغي الاستهانة على الاطلاق بحصّة الأطراف الداخلية من اللوم، بمن فيهم: الأنظمة الحاكمة، النخب المثقّفة وحركات المعارضة، فقد أضاعوا بينهم أكثر من 15 عاماً مرت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي كان يمكن للمنطقة خلالها أن تسهم في إعادة استنباط نفسها، عوضاً عن أن تجد نفسها مضطرة إلى تبني العمليات التغييرية نتيجة لضغوط وتدخّلات خارجية ووفقاً لأجندات ومصالح خارجية أيضاً. إن الاستقرار والثبات لا يشكّلا قيماً نفخر بها ونتمسك بها مهما كان الثمن، والتغيير لا يشكّل بالضرورة تهديداً وجودياً لشعوب المنطقة، ولكن المقاومة العمياء قد تجعل منه كذلك، وهذا بالضبط ما نجحت شعوب وحكام المنطقة في إنجازه على ما يبدو. لكن التغيير آت، ولا شكّ في أن العنف سيلعب دوره هنا، مهما حسنت النوايا. ومن الأفضل لنا في هذا الصدد أن نخطط لإدارة التغيير، عوضاً عن الانخراط في محاولة عدمية لمقاومته، كما يرغب في ذلك الكثير من قادتنا بغية الحفاظ على وجودهم ومصالحهم.

ملاحظة حول التخاذل
16 أيلول، 2006 /  النسخة الإنكليزية

تشكّل مشاعر التخاذل والتقاعس المنتشرة في الوساط الشبابية في المنطقة واحدة من أخطر الأمراض الأجتماعية التي تهدد مستقبل المنطقة. لكنا، لا يمكننا أن نتكفي في محاولاتنا اليائسة لتفسير هذه الظاهرة بإلقاء اللوم على الأوضاع الاقتصادية وثقافة الخوف الناتجة عن الاستبداد السياسي أو الخوف من الفوضى والوبال الذي يمكن أن تعود علينا به العمليات التغييرية عندما لا تتوفر الأوجه الناسبة لتوجيهها وقيادتها. وهذه الملاحظة تقودنا إلى مواجهة الجزء الآخر من المعادلة هنا، فالسلوك الإنساني لا يشكّل فقط عبر عوامل الإثباط، التي تمثلها الأوضاع الاقتصادية السيئة وثقافة الخوف، بل يتم تشكيله أيضاً عبر عوامل التحريض، وهي غائبة عن الصورة هنا، وربما كان غيابها هو السبب الأكبر وراء التخاذل والتقاعس الذي نراه بين صفوف الشباب. إن غياب الرؤية المستقبلية الواعدة والأوجه القايادية المقنعة، والتي يمكن لها أن تشكّل العوامل التحريضية المطلوبة، تبدو هي لب المشكلة. ولو كانت الرؤى والشخصيات الإسلامية والقومية كافية لسد هذا الفراغ، لتم أسلمة المنطقة أو لنجح الطرح القومي منذ عقود خلت.

لكن القناعات والتطلّعات الشبابية، وبصرف النظر عن علاقتها المعقّدة بالدين والانتماءات القومية، ما تزال فيما يبدو منفتحة على الاحتمالات الأكثر عقلانية وحداثة، وهذا يفسح، حتى حين على الأقل، المجال لتقديم رؤية معاصرة ليبرالية الطابع. لكن تلك "الانتصارات" التي تحقّقها الشخصيات والحركات الدينية اليوم، من خلال قدرتها على تحدي تلك الجهات، في الداخل والخارج، التي تفرض نفسها علينا بالقوة لتحقيق مصالح فئوية وطبقية ضيقة تتناقض بالضرورة مع المصلحة الوطنية العامة، تفرض علينا ضرورة التحرّك بسرعة لطرح بديل آخر لذلك المزيج الغريب من الفكرين الإسلامي والقومي الذي بدأ يسيطر على الساحة اليوم، قبل فوات الأوان. فالشباب بطبعه نافذ الصبر.

عن الحرية والاستقرار
10 أيلول، 2006 /  النسخة الإنكليزية

علينا أن نفكّر بالموضوع المتعلّق بنوعية السلام والاستقرار الذي مازال يرغب به الكثير منا هذه الأيام بنفس المقدار والجدية التي نفكّر بها بالأمور المتعلّقة بالتغيير واللاستقرار، لأنه لم يعد بوسعنا أن نوازن بعد اليوم بين بحثنا عن الحرية والتقدم والرخاء والعدالة من جهة ورغبتنا، من جهة أخرى، في الحفاظ على الوضع الراهن خوفاً من نتائج التغيير وحالة اللاستقرار التي قد تنجم عنه. إن سعينا للارتقاء بوضعنا المعيشي بات يتطلّب تغييراً جذرياً في تركيبة الدولة والمجتمع، ناهيك عن أنماطنا المعيشية.

إننا بالفعل نواجه في هذه الأيام أزمة وجودية الطابع بكل ما في هذه الكلمة من معنى، ولقد بدأت هذه المواجهة منذ حين بالفعل، ولكنا اخترنا أن ندير ظهرنا لها، وما زلنا مصرّين فيما يبدو على خيارنا البعيد عن الحكمة هذا، الأمر الذي يقلّل من احتمالات نجاتنا وبقاءنا كدول ناجعة وثقافة حية. إن اصرارانا على رفض التعامل مع الواقع بات يجرّدنا من كل خيار، وقريباً قد لا يبقى لدينا أي شيء لنزود ونقاوم دفاعاً عنه ونرفض التغيير من أجله. إذ يمكن لخياراتنا، ومواردنا، ومصائرنا أن تؤخذ منا بذات السهولة التي وهبت بها لنا. والتاريخ لا ينتظر طويلاً حتى يحزم الناس أمرهم، مهما بدا تردّدهم وتلكّؤهم وتخوّفهم فيما يتعلّق بالتغيير مشروعاً، وبصرف النظر عن الطبيعة الإنسانية كلها وحاجتها إلى وقت كي تتأقلّم مع بعض المتغيّرات . فالتاريخ، وإن كان من صنع البشر، يبقى كالزمن مجرّداً من العواطف. فالتاريخ هو الزمن، والشيء الوحيد الذي يمكن أن يفعله هو أن يمرّ، سواء تمكّنا من السير على وقعه، أو وقعنا ضحايا لسيروته.

الواقع بين التفسير والتبرير
3 أيلول، 2006 / النسخة الإنكليزية

إن محاولتنا تفسير الواقع لا تبرّر هذا الواقع ولاتكرّسه، بل هي وجرّد وسيلة ضرورية للتعامل معه ومع معطياته ومسبّباته ومحرّضاته ونتائجه. وبالتالي، فأن كلامنا عن التنوّع أو الطائفية أو العلاقات المتوتّرة بين الأقليات والأغلبيات في بلد أو منطقة ما من هذا العالم، إنما يهدف فقط إلى توصيف الواقع لا إلى تكريسه، وذلك بغية التعامل معه ومع الإشكالات الناجمة عنه بمزيد من الإيجابية والفعّالية.

حاجتنا الحقيقية

القومية، البعثية، الإسلاموية، إلخ. لم تقدم لنا كل هذه الإيديولوجيات التي اجتاحت منطقتنا منذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين وما بعد، إلا الخراب، ولم تشكّل إلا خيانة للتنوع الرائع الذي طالما كان جزءاً من حياتنا اليومية.

نحن بحاجة إلى شيء جديد، أفكار جديدة تسمح لنا بتحويل تنوّعنا إلى مصدر قوة وثروة و يضع حداّ لكل تلك النزاعات الإثنية المقيتة التي باتت تشوب كل جوانب حياتنا. نحن بحاجة إلى أن نعيد حياكة نسيجنا الاجتماعي المهترء لنتج نسيجاً جديداً أكثر تألّقاً وتماسكاً.

إحذروا رجال الدين
27 أب، 2006 

احذروا رجال الدين حتى عندما يأتون حاملين النصر هدية، لأن الثمن الدنيوي يبقى دائماً أغلى من أن نتحمّله.

سورية من الداخل
25 تموز، 2006 

يزيد تدفق النازحين من لبنان إلى سورية من الضغوط الكبيرة التي يعاني منها الاقتصاد السوري الذي لا يزال يحاول استيعاب ما ينيف عن مليون لاجئ عراقي جاؤوا إلى سورية عبر السنوات الثلاث الماضية. والسؤال هنا، هل يمكن لهذا الضغط المتزايد أن يؤدي إلى إثارة الفتن والنعرات في سورية؟ لقد رأينا منذ أسابيع قليلة فقط كيف تحوّلت حادثة بسيطة في ضاحية جرمانا الدمشقية إلى هجوم شعبي على اللاجئين العراقيين هناك كشف عن مشاعر غضب وحنق ورفض لم يعد بوسع سكان الضاحية الأصليين أن يكبتوها. ويبدو، بالرغم من الطبيعة القمعية والأمنية للنظام السوري، أنه لم يكن مؤهّلاً للتعامل بحسم مع الموضوع وأن جلّ ما بوسعه أن يفعل في هذه المرحلة هو محاولة استيعاب القضية على نحو شكلي فقط من خلال القبض عل بعض المحرّضين. هذا بالرغم من أن الماضي القريب يكشف عن أن الأوضاع الاقتصادية المتردّية في سورية قد بدأت تأخذ منحى الصدامات والخلافات القبائلية والطائفية حتى قبل اندلاع الأزمات في العراق ولبنان. وفي الواقع، وفي الوقت الذي يبدو النظام السوري فيه منشغلاً بخلافاته الداخلية ومشاكله الخاصة مع المجتمع الدولي، يبدو أن هناك فرصة كبيرة لحدوث انهيار داخلي وكارثي للبنية الاجتماعية في البلد في المستقبل القريب.

تعليق: قد اتفق معك بالوضع المادي المتردّي لكن الحادثة ليست بسيطة وردّات الفعل ضرورية، الحادثة هي حادثة قتل سفيهه وبدون سبب بالمقابل المجرم ما زال طليقاً وقد جيّرت المسألة لأنه ليس من العراق إنما من الجزيرة أرجو ان تنتبه لهذا.

رد: إذا كان القاتل من الجزيرة، وجيّرت المسألة ضد العراقيين، فهذا أكبر دليل على الأعصاب المتوترة وعلى الحسابات الداخلية التي تجري بين الناس، فسكان الجزيرة كانوا دائماً، من وجهة نظر سكان جنوب سورية على الأخص، أقرب إلى العراقيين منهم إلى باقي السوريين، وعلى ما يبدو فأن هذا الانطباع ما يزال موجوداً، سورية بلد معرّض فعلاً للتفتيت في ظلّ هذه الأجواء والاحتقانات، وقبضة الأسود لن تكفي لحفظ الاستقرار، بل صارت عاملاً مغذياً له.

معضلة التدخّل الدولي
23 تموز، 2006

هل أدى التدخل الدولي عبر العقدين المنصرمين إلى أي تقدم ملحوظ في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط؟

إذا ما أخذنا بعين بالاعتبار أن الطالبان ما يزالوا "يقاومون" في أفغانستان، وأن الوضع في الصومال ما يزال يتجه من سيء إلى أسوأ، وأن قضية كشمير ما تزال عالقة، ودعونا لا نتحدّث عن القضية الفلسطينية والإحباطات التي تسبّبها للجميع، يبدو من الواضح أن التدخّل الدولي يعاني من نقص أو خلل ما.

وفي الواقع، وحده التدخّل الدولي في يوغسلافيا السابقة يبدو وكأنه حقّق نجاحاً معقولاً وأدّى إلى احتواء وإنهاء الحرب. هل يعود ذلك إلى أن الحرب كانت في أوروبة نفسها، وكانت تشكّل تهديداً للاستقرار هناك؟ أم، هل يعود السبب في تأخير وتأجيل وتعليق الحلول للمشاكل والأزمات في الدول النامية إلى صعوبات حقيقية فيها؟ أم إلى قلّة اهتمام فيها من قبل الدول المتقدّمة؟ أم إلى عملية محاصصة معقّدة ما ما زالت لم تحسم بعد؟

لن نطرح أجوبة هنا، ولن نتبنّى أية نظرية، لكن الأسئلة المتعلّقة بهذا الموضوع لابد وأن تُطرح من جديد، لأن الإجابات باتت أكثر إلحاحاً من ذي قبل، إذ ما انفتأت الأزمات تولّد أزمات، وما انفكت الأوضاع تسوء ويبدو أن عدد الدول المتجهة إلى انهيارات وانفجارات كارثية في تزايد مستمرّ.

لعبة القط والطالبان
20 تموز، 2006 / النسخة الإنكليزية

للعبة القط والفأر بين الجيوش النظامية وحركات المقاومة الشعبية ثمن يدفعه المدنيون ومدنهم، وغالباً ما تؤثر هذه اللعبة سلباً على احتمالات قيام نظام ديموقراطي في المرحلة اللاحقة، وإذا كان نجاح ألمانيا واليابان في بناء أنظمة ديموقراطية بعد انتهاء الحرب العاليمة الثانية وفي النهوض من الدمار يعطينا بعض الأمل، فإن المؤشرات الحالية في لبنان إن دلّت على شيء فعلى أن احتمال سيطرة العناصر المعادية للديموقراطية على زمام الأمور نتيجة لكل هذا الدمار هو الأقوى. صحيح أن هذه العناصر ستحكم سيطرتها على خرابة، لكن هذا لا يضيرها في شيء طالما أنها ستحكم. لقد سبقت طلبنة عقول وأرواح وأحلام معظم الناس في ربوعنا طلبنة الواقع المادي بمدنه وحروبه، من الطبيعي للدمار في داخلنا أن يخلق دماراً في الخارج أيضاً. نعم، إسرائيل هي التي تدمّر، لكن تناقضاتنا هي التي استجلبت غضب إسرائيل والدمار. إسرائيل تعرّينا. وفي هذا، كلّنا مذنبون، كلّنا ملامون.

كيف نغلق جوانتانامو

جوانتانامو عار كبير على جبين أمريكا، لا يختلف إثنان في هذا الأمر، وربما جاء قرار المحكمة العليا الأخير كنوع من التصديق الرسمي في هذا الصدد. لكن، ربما كان على شعوب الشرق الأوسط أن تركز جلّ انباهها على السجون الموجودة في ربوعها و يتجنّبوا الوقوع في فخ انتقاد الخارج في هذه المرحلة. لأن القوى القمعية والظالمة في الداخل هي التي استجلبت كل هذا التدخل الخارجي. فالظلم يولّد الجهل، والخليط الناتج عنهما يستجلب التدخل الخارجي بكل أشكاله لأنه لا يقف عند حد. فالأنظمة الغشمة بحاجة دائمة لافتعال الأزمات مع الخارج لتبرير قبضتها الحديدية ولصرف النظر عنها (وعن فسادها) في آن.

لذا، يبدو جلياً أن نضال المصلحين في المنطقة هو نضال داخلي، وفي حال تمكنّا من إغلاق السجون في ربوعنا لن يكون هناك غوانتانامو آخر في مستقبلنا. فالشعوب الحرة تعرف كيف تصون حريتها وتعرف كيف تتعامل مع العالم الخارجي بشكل يكفل كرامتها ومصالحها.

الاقتراع والنجاح
1 تموز، 2006 

لا يشكّل الحصول على حق الاقتراع ضماناً لأي شيء ما خلا التداول السلمي للسلطة. فحصول المرأة على حق الاقتراع لا يعني بالضرورة أن النساء سيقترعون لصالح النساء، والاقتراع عموماً لا يعني الفوز للمرشحين الأكثر استحقاقاً، فالفوز بالانتخابات ينجم بدرجة كبيرة عن القدرة التنظيمية لفريق العمل الانتخابي.

لذا، نرى في الكويت أن حصول المرأة على حق الانتخاب أخيراً لم يؤدي إلى فوز أية مرشحة، في حين تقاسم الاصلاحيون فوزهم مع الإسلاميين. ومع ذلك، يشكّل تطوّر العملية الانتخابية في الكويت خطوة كبيرة وهامة على درب الدمقرطة الطويل، ولا شك في أن هناك الكثير مما ينبغي على الكويتييت تعلّمه في الأيام والسنين القادمة.

المنطقة ومسألة التغيير
27 حزيران، 2006

لم يعد بوسع أحد أن ينكر أن هناك حاجة جدية وملحّة للتغيير والتحديث في المنطقة وللتضافر الجهود والمساعي في هذا المجال. ولقد بات من الواضح أيضاً أن الحلول السريعة مستحيلة تماماً كاستحالة استمرار الوضع الراهن إلى ما لا نهاية. لأن التقارير التي أصدرها البرنامج الإنمائي التابع لهيئة الأمم المتحدة، إن دلّت على شيء، فعلى حتمية التغيير في المنطقية كمسألة وجودية.

لكن المصالح الخاصة برجالات الأنظمة الحاكمة في معظم الأحيان تعيق أي تقدم حقيقي في هذا المجال، والمشكلة التي تواجه الجميع تكمن في أن الأنظمة لن تسعى إلى التغيير من تلقاء نفسها من ناحية، وما أن تتعرّض لضغوط في هذا الصدد حتى تذعن للمواجهة وتجعل منها أمراً حتمياً وتتعنّت وتتنمرد، كل هذا على حساب مواطنيها والمصالح الوطنية الحقيقية للدول. وفي الحقيقة لا يوجد حلول واضحة لهذه المشكلة، لكنه من الواضح استمرار أن هذا الوضع سيؤدي، إن عاجلاً أم آجلاً، إلى تكاثر الدول العرضة للانهيار الكارثي في المنطقة، لكت المنطقة أكثر حيوية لمصالح القوى العالمية من تترك لهذا المصير في هذا الوقت بالذات يشهد فيه العالم تصعيداً في وتيرة المواجهات الإرهابية من ناحية، وصراعاً شديداً على منابع النفط والطاقة الحيوية في المنطقة والعالم من ناحية أخرى. ولقد بات العالم أصغر من ينأئ بنفسه عن آثار الكوارث الإنسانية التي قد تجتاح المنطقة في المستقبل القريب.

بضعة خواطر عن الحداثة
23 حزيران، 2006

تتميّز أغلب المشكلات في المنطقة والتي تعيق توغّل الحداثة فيها بأنها نفسية الطابع أكثر منها سياسية أو اقتصادية، وهي حقيقة تتجلّى بوضوح من خلال استعراض موجز لواحدة من أهم تلك المشاكل: عدم قدرة شعوب المنطقة على التصالح مع ضرورة الانتقال من الثقافة التقليدية نحو اندماج كامل بثقافة الحداثة وقيمها. إذ يعتقد شعوب المنطقة أنه بوسعهم الاستفادة من كل الفوائد التي تقدمها الحداثة مع المحافظة على مجمل القيم التقليدية والتي توارثوها أباً عن جدّ باسم الدين والعادات والأعراف.

وتتجلّى هذه النزعة عند بعض بالاصرار على القدرة على الاستفادة من التقنية الغربية فقط دون تبنّي أي من عادات وقيم الغرب، بينما يذهب البعض الآخر على التأكيد على إمكانية تبنّي بعض العادات والمظاهر الغربية، خاصة فيما يتعلّق باللباس والتبهرج، مع المحافظة على جوهر القيم التقليدية، خاصة فيما يتعلّق بوضع المرأة في المجتمع.

لقد كان هذا العجز عن قطع الحبل السري الذي يربطنا بالماضي السمة الأساسية لحياتنا لأكثر من قرن، لهذا نجد مجتمعاتنا اليوم على حافة انتكاسة هائلة نحو الوراء ونحو تبنّي القيم الأكثر ظلامية وانغلاقاً. لقد فشلنا في اكتساب الميزات الحقيقية التي تقدمها الحداثة، وذلك لأنا لم نشارك في صنعها من ناحية، ولهذا مازالت تبدو بالنسبة لنا وكأنها "بضاعة أجنبية،" ولأنا، من ناحية أخرى، ما نزال نصرّ على عدم قبول قيمها الأساسية متحجّجين بنقصانها وتعارضها مع القيم الموروثة المقدّسة.

والحداثة بالطبع منتج منقوص، مثلها مثل كل الأنظمة التي وضعها البشر، لكن المساهمة في تحسينها وتكميلها لا تتمّ إلا من خلال قبولها والانفتاح على أفكارها وفلسفاتها وقيمها، خاصة إصرارها على النزعة الفردانية وعلى حقوق الفرد. فهذه النزعة هي إحدى السمات الأساسية للحداثة، وهي التي تسمح لكل فرد أن يشكّل المزيج الخاص به من قيم الحداثة والثقافة الموروثة، وأن يعيش وفقاً لهذا المزيج بكل تناقضاته وبكل حرية، طالما أنه لا يتعدّى على حريات الآخرين.

أن هذه السمة للحداثة التي تسمح لمن لا يؤمن بكل معطياتها العلمية والثقافية أن يمارس حريته في رفض هذه المعطيات هي نقطة القوة الأساسية فيها، ونقطة ضعفها في آن. ذلك لأنها تفسح المجال للرافضين، حتى المتشدّدين منهم، بالتآمر عليها وعلى العمل على تقويض مؤسساتها إن إمكن.

لكن الدفاع عن الحداثة لا ينبغي أن يتمّ من خلال كبت الحريات، مما يؤدي إلى الوقوع في فخّ المساهمة في تقويضها ومساعدة أعداء الحدثة، بل من خلال التيقّظ الدائم للمخاطر المحدقة بها ومكافحتها عن طريق المؤسسات والقوانين التي تشرعها الديموقراطية.

فلنطرح الأسئلة الحقيقة على بساط البحث
17 حزيران، 2006 

منذ اشتعال المنطقة بالمظاهرات الاحتجاجية على ظاهرة الرسوم الكرتونية المسيئة لرسول في الإسلام في الدنمارك والصحف العالمية تشهد موجة من المقالات المليئة بالإدانة للإسلام كدين عنف والمحذرة من الخطر الذي يشكله ازدياد عدد المسلمين في أوروبا على طبيعتها الثقافية (المسيحية) والعلمانية.

لكني، وإن كنت أقرّ بوجود مشكلة حقيقة ناشئة عن تصادم القيم الثقافية للأديان التقليدية مع تلك التي تبشّر بها الحداثة، لا يمكن أن أصمت حيال هذه التحليلات المفرطة في التبسيط والتافهة لطبيعة التحديات التي تواجهنا اليوم، لأنها لن تزيد الطين إلا بلّة ولأنها ستساهم أكثر وأكثر في تأجيج نار الأحقاد ضد المهاجرين المسلمين في بلاد الغرب.

لذا، فالأسئلة الحقيقية التي تواجهنا اليوم لا علاقة لها بكون الإسلام دين سلام أم لا، فالأديان التقليدية بمجهلها قادرة على أن تقدم كبرّرات ومسوّغات للحرب والسلم معاً، ولا علاقة لها باجتياحات وهمية للمجتمعات الغربية المتحصّنة خلف قيم الحداثة واقتصادياتها وانجازاتها السياسية والعسكرية، بل ينبغي على الأسئلة أن تركّز على التحديات النابعة عن ضرورة إيجاد آليات مناسبة لتأمين دمج المجتمعات التقليدية في بنية العالم الحديث بطريقة تتماشى مع القيم الإنسانية التي تدعو إليها الحداثة. كما يجب على هذه الآليات أن تتعامل بشكل ناجع مع الترتيبات الإنتقالية الضرورية التي ينبغي أن تدار المجتمعات الإسلامية من خلالها حتى يتحقق الإندماج المنشود.

لا يوجد أجوبة سهلة هنا بالطبع، ولكن صعوبة الأمر هنا تؤكد على صحة السؤال، في حين نرى أن الأسئلة التبسيطية التي أشرنا إليها أعلاه لا يمكنها أن تؤدي إلا إلى الجواب "السهل" المتعلّق بحتمية المواجهة مع الإسلام والمجتمعات الإسلامية بغض النظر عن تعقيداتها البنيوية وتحدياتها التنموية، وعن أن معركة الحداثة لها أنصارها في المجتمعات الإسلامية، وعن أن مواجهات وجودية من هذا النوع غالباً ما تؤدي إلى انتهاك الحقوق الأساسية لمن باتوا يعدون اليوم من زمرة الأعداء.

بين الإسلام والعلمنة
23 آذار، 2006 

هل الإلحاد أو الزندقة بحدّ ذاتهما نوع من التطرّف؟ أم هل يكمن التطرّف في الاصرار على التعبير عنهما بكل صراحة ووضوح وعلانية وبغض النظر عن ردود الأفعال؟

قد يبدو الجواب سهلاً للوهلة الأولى، لكنّا لا نعيش في عصر الإجابات السهلة، بل يبدو أن هذا العصر هو محض خيال. فالمشكلة الحقيقية تكمن في أن التغيير، خاصة التغيير الاجتماعي والقيمي، لم يطرأ عبر التاريخ إلا كنتاج عملي للعبة الصدمات المريرة وردود الأفعال عليها. فالتغييرات الاجتماعية الجذرية لا يمكنها أن تحدث إلا نتيجة تحدّيات جوهرية وعلنية للقيم السائدة ونتيجة الاستقطابات والصدامات الخطيرة التي ولّدتها هذه التحديات على أرض الواقع. 

وللحوار، والتفاوض، والاتفاقات المرحلية، وغيرها من وسائل التواصل وإدارة الأزمات، دورها المؤثّر هنا، لكن، كذلك الأمر بالنسبة للتحريض، والتهييج، والاستفزاز، على مرارة عواقبها. فالتطرّف، في خاتم المطاف، أداة فعّالة في يد قيادات فئوية معينة في سعيها إلى توسيع رقعة نفوذها وتضخيم حصّتها من المغانم كجزء من صراعها مع الفئات الأخرى.

لذا، وضمن هذه الرؤية للأمور، يمكننا القول بأن الساعة قد أزفت لكي يفرض التطرّف العلماني نفسه على الساحة، تماماً كما فعل ويفعل التطرّف الإسلامي.

وعلينا أن نذكر هنا أن الحوار لايحدث إلاّ بين أطراف عقلانية بهدف البحث عن حقيقة ما مشتركة أم لا، أم ما يحدث في أغلب الأحيان باسم الحوار هذه الأيام، بل وعبر التاريخ، فلا يعد عن كونه تفاوضاً وتحاصصاً، وهذا يتطلّب السعي نحو إيجاد توازن معيّن في القوى لكي تأخذ العملية التفاوضية مجراها.

إن بروز الفكر العلماني في المنطقة في القسم الأول من القرن العشرين، جاء في طور انحسار عام للفكر الديني، في شكله التقليدي على الأقل، لذا، فهم لم يؤدي إلى حدوث صدام حقيقي بين الفكرين. وكذلك الأمر بالنسبة لعودة الفكر الديني إلى الساحة في القسم الثاني من القرن الماضي، فلقد جاءت في ظل اندحار الأنظمة العلمانية وتحوّلها إلى أنظمة فئوية استبدادية، مما حدا بهذه الأنظمة إلى تفادي الاصطدام  فكرياً مع التيارات الدينية لتسهيل عملية قمعها على الصعيدين السياسي والعسكري. ولقد سمحت هذه السياسة للتيارات الدينية الأكثر ظلامية بالسيطرة على شرائح اجتماعية واسعة، في حين قامت المتغيّرات الدولية بدورها بتسهيل عملية تحوّل هذه التيارات إلى لعب دور الناطق "الرسمي" المعبّر عن الاحباطات المختلفة للمنطقة وشعوبها، بصرف النظر عن المدى الحقيقي للتطابق ما بين تطلّعات هذه التيارات والتطلّعات الفعلية لشعوب المنطقة.

وما لم ترتقي التيارات العلمانية إلى التحدّي، فإن هذا الفشل سيؤدّي وبكل سهولة إلى استمرار عملية الانحلال المجتمعي التي نشهدها حالياً في الكثير من دول المنطقة، وسيكون لهذا التطوّر نتائجه الكارثية على شعوبها. فأي نوع من الانجازات الحضارية يمكن أن تفرزها شعوب تسيطر على ثقافتها عقلية وهابية؟

أما إنجازات العقلية العلمانية فهي في كل مكان.

تعليق: من قال أننا بحاجة لتطرف علماني لنواجه به التطرف الديني. الواقع يؤكد لنا يوما بعد يوم انتصارات العلمانية عندنا وعند من سبقنا. ماينقص هو البحث عن صيغ الاعتراف بالواقع.العلمانية تفرض نفسها بشتى الطرف، وانحسار التيارات الدينية شيء محتم. شئنا أم أبينا.

رد: شكراً على تعليقك، ولكن كما ترى فالمنطقة تشهد مداً دينياً كبيراً ليس بوسعنا تجاهله، والصيرورات التاريخية بحاجة دائماً لمن يناصرها، فالعالم لا يتطور من تلقاء نفسه بأي اتجاه. نعم، لا يمكن للتيارات الظلامية أن تقدم بديلاً حقيقياً للحداثة وللعلمانية، لكن يمكنها أن تدمر المجتمعات وتولد انتكاسات كبيرة. وأعتقد أن منطقتنا تسير بخطى كبيرة في هذا الاتجاه، ولكن، ليس بوسعنا أن نسلم بالخسارة بعد.

الفرق بين الكويت وسورية
23 آذار، 2006 / النسخة الإنكليزية

في عام 2000 لم يحتج البرلمان السوري، المسمى بمجلس الشعب، سوى أقل من 30 دقيقة لتعديل دستور الدولة الموجود منذ عهد بعيد بغية إفساح المجال لبشار الأسد كي يخلف والده المتوفى حديثاً، حافظ الأسد، كرئيس جديد للدولة. ولم يُسمع صوت معارض واحد. ولكن أحد أعضاء البرلمان تشجع واقترح بأن تكون المداولات أطول وأن تتم عملية التعديل بمزيد من الإتقان للمحافظة على صورة البلد، دون الحاجة لذكر ذلك للرئيس القادم. تم توبيخ عضو البرلمان الشجاع هذا لمجرد التفكير بذلك. إذ لا يسمح لأعضاء البرلمان في سوريا البعثية أن يفكروا، نقطة انتهى.

وفي أواخر كانون الأول 2005، حصل البرلمان السوري على فرصة أخرى ليظهر لنا تدخله في عملية صنع القرار في البلد، عندما دعي للرد على تصريحات واتهامات نائب رئيس الدولة السابق، عبد الحليم خدام، المناوئة للزمرة الحاكمة في البلد. حيث أن عبد الحليم خدام، الذي لجأ إلى باريس في آب، ورط تقريباً الرئيس السوري في عملية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في مقابلة بثها تلفزيون العربية أواخر كانون الأول.

ولكن إذا كانت الجلسة البرلمانية والاتهامات الطائشة التي قدمها أعضاء البرلمان ضد السيد خدام، والتي كشفت للمواطن العادي حقائق راسخة، قد أفضت إلى شيء فبأنها ساعدت على التأكيد مجدداً أن الشعب السوري لا يكنّ أي احترام للبرلمان. لأن توقيت فضح عبد الحليم خدام قد كشف بوضوح للجميع أن حرية الحديث عن الفساد قد منحت من أعلى وفقط لتخدم مصالح الزمرة الحاكمة.

بعد تصويتهم على عزل الأمير المعين حديثاً، والذي حاولت العائلة المالكة فرضه على الشعب الكويتي كحل وسط، أثبت البرلمانيون الكويتيون أنهم استفادوا جيداً من الدرس السوري. فقد أدركوا حاجة النخبة الحاكمة لموافقة برلمانية على بعض القضايا الرئيسية، مما يقتضي منح سلطة كافية للبرلمانيين كي يتخذوا قراراتهم على أساس الدستور والمصلحة الوطنية، بصرف النظر عن توقعات ورغبات النخبة الحاكمة.

تصور فقط ما كان سيحصل عام 2000، لو أن البرلمان السوري رفض أن يكون هيئة ببغائية، وأصر على التقيد بالدستور، وذلك لغياب الدافع الحقيقي لتغييره. لكان من شأن ذلك إكراه معسكر بشار على التفاوض مع البرلمان، مما يقوي مركز البرلمان أكثر، أو يعد لانقلاب ما كان ليحظى باعتراف أي بلد في العالم، وبذلك يهيئ الساحة للوساطة الدولية ولتبني تسوية تساعد على تمكين البرلمان وتبشر بعملية سياسية أكثر انفتاحاً.

وكان من الممكن أن يحصل تطور مشابه في نهاية 2005 حين طلب من البرلمان السوري شجب خدام. بالفعل، كان بوسع البرلمانيين أن يقلبوا الطاولة بسهولة على الزمرة الحاكمة ويطالبوا بإجراء تحقيق حقيقي في مزاعم خدام وتبني عملية حقيقية لمحاربة الفساد في البلد. 

لم يكن لذلك أن يحصل، بالطبع، لأن البرلمان السوري كان على الدوام هيئة ببغائية، ولأن هؤلاء البرلمانيين أنفسهم ينتمون إلى ذات النخبة الحاكمة الفاسدة والتي تفتقر إلى الكفاءة. هذه هي محنة الشعب السوري. هذه هي النتيجة الطبيعية لعقود من التلاعب بالعملية السياسية، وتفريغ المؤسسات الحكومية من جميع كوادرها المؤهلين، وتعيين الناس على أساس الولاء لا الكفاءة، والتلاعب بالنتائج الانتخابية، وتحويل الإجراءات القضائية إلى مهزلة، والافتقار إلى حرية الصحافة، والتحطيم المستمر للطبقة المتوسطة في البلاد. مجموعة من القياديين الذين يفتقرون إلى الكفاءة على كافة المستويات تصبح مسؤولة عن مصير البلاد. في مثل هذه الحالات، يصبح العصيان المدني هو المخرج الوحيد.

أما في الكويت، فإن زيادة إطلاع المواطنين على الحقائق الإقليمية والعالمية المتغيرة باستمرار، وحرية الصحافة ووجود عناصر أكثر تنوراً في المجتمع المدني ومجتمع الأعمال، ووسط صفوف النخبة الحاكمة يعني أن الإصلاح يمكن أن يتم باستخدام المؤسسات القائمة كنقطة انطلاق للإصلاح. ويفضي إلى عدم ضرورة أن يكون النشاط المدني جذرياً خلافاً للوضع في سوريا.

وهذا، كما أعتقد، هو الاختلاف الرئيسي بين سوريا والكويت. يمكن إصلاح وتطوير وتحديث ما لدى الكويتيين. أما ما لدى السوريين فهو بحاجة إلى إعادة خلق وتجديد وصياغة شاملة. على السوريين أن يبدأوا من جديد.

أسطورة العصر الذهبي
22 شباط، 2006 / النسخة الإنكليزية

يبدو أن إحدى الأساطير الرئيسة التي تعيق جميع مساعي تحديث المعتقدات الدينية، لاسيما الإسلامية، هي الإصرار على مفهوم العصر الذهبي. حيث تعزز هذه الأسطورة تركيز المسلمين في استشرافهم على الماضي. وبذلك يتم في أغلب الأحيان تصوير أي مسعى لتغيير وتحديث الإسلام على أنه محاولة لإحياء نقائه السابق.

يمكن إيجاز جوهر هذا الميل في مصطلح يكثر استخدامه هذه الأيام هو السلفية. إن الهدف الكلي للفكر السلفي هو استخلاص العبر من الماضي المقدس لمساعدتنا على الإبحار في البحار المضطربة للحاضر المدنس, والمضي نحو مستقبل يتمثل في بعث العصر الذهبي للأيام الخوالي ليس إلا.

لكن أنى للمرء أن يبلغ المثل المقيدة غالبا بأشكال وطرق محددة للحياة؟ لأن مثل هذا الإصرار على الماضي وقدسية هديه، لم يترك مجالاً لغير السقوط في شرك الشكلية، إن لم يكن الإذعان الشكلي.

يبدو لي أن هذه النزعة تستخف أكثر فأكثر بالحكمة الفردية القائمة على تجارب الفرد الشخصية في الحياة.

يكافح الناس عادة لبلوغ مثلهم، وغالباً ما تكون حياتهم نضالاً مستمراً لبلوغ الكمال. ولكن أنى لهم ذلك ما داموا مجبرين على تقييم معلوماتهم المستقاة من تجاربهم الخاصة في ضوء الماضي المقدس، ومحرومين من تقييم ذلك الماضي نفسه في ضوء تجاربهم الخاصة (هذا فضلاً عن تجاربهم الجماعية، كما يرونها بشكل فردي بالطبع)؟

إذا كان بوسعنا أن نرقى بالإسلام إلى الكمال، أو على الأقل، أن يرقى تفسيرنا له إلى الكمال، عندها يكون هذا الافتقار إلى التفاعل مع الماضي، والزمن ككل، أكثر دلالة على الانحطاط منه على الكمال.

قصارى القول، إذا كان بوسعنا أن نرقى بالإسلام إلى الكمال، فليس بوسعنا أن نصف الماضي بالكمال ناهيك عن القدسية. وبالتالي لعل العصر الذهبي ينتظرنا في المستقبل، لكنه، بالتأكيد، لم يوجد أبداً في الماضي.

الأقباط، والنساء، والبيرة
17 شباط، 2006 / النسخة الإنكليزية

في مؤتمر حول الحوار المدني جرى قبل عدة سنوات، ناقش المؤتمرون إمكانية إجراء حوار جدي بين الإسلاميين والعلمانيين. أتذكر أنني في ذلك الوقت، ورداً على زميل مصري دعا إلى الحوار مع الأخوان المسلمين في بلده، توصلت إلى مصطلح "الأقباط، النساء والبيرة" للإشارة إلى ثلاث قضايا رئيسية تحتاج للمناقشة، وهي: قضايا التنوع، قضايا الجنس وقضية الخصوصية. ولكن ربما تنتهي القضايا الرئيسية الثلاث إلى قضية رئيسية حقاً: قضية الحدود ونقاط الالتقاء بين العام والخاص. فطالما ينزع الإسلاميون إلى توسيع حدود العام على حساب الخاص، سيعاني العلمانيون من مشكلة كبيرة. لا يعد شعار "القرآن هو دستورنا" مشكلة بحد ذاته. المشكلة هي في كيفية تحديد الإسلاميين لضمير "نا".

إن نزوعهم إلى تضمين كل مواطني مصر في "نا" تلك، هذا فضلاً عما يصفونه بالعالم الإسلامي، يسقط عنصر الخيار الحر من المعادلة، حيث يجد أولئك الذين لا يؤمنون بشعار الإخوان المسلمين أنفسهم ضمن هذه اﻟـ "نا" شاءوا أم أبوا. مما لا يترك مجالاً لإقامة أرضية مشتركة. ولهذا السبب، فان كل حوار جرى بين المسلمين والعلمانيين المصريين كان ذا سمة تكتيكية. ولم يتطرق للقضايا الرئيسية التي تفصل الطرفين بشكل جدي. وفي هذه الأثناء، ورغم التصريحات المضادة، لم تعترف أي من المجموعات الإسلامية الرئيسية بحرية الضمير. فعندما يتم الانتقال من القضايا العامة إلى مناقشة القضايا الخاصة المتعلقة ﺒـ "الأقباط، النساء والبيرة" أي تلك المتصلة بقضايا التنوع، الجنس والخصوصية، يجاهر الإسلاميون باعتراضات محددة تنزع إلى تكذيب أي التزام بالمبدأ العام للحرية.

وما لم يتم إيجاد الطرق التي تلزم أولئك الإسلاميين الذين يقدمون أنفسهم كمعتدلين بمواقف علنية صريحة إزاء هذه "التفاصيل" لن يكون هنالك حوار فعال بين الإسلاميين والعلمانيين، ولا يمكن لأي اتفاق بينهم أن يدوم.

نحو كسر الجمود السياسي
14 شباط، 2006 

يبدو أن مختلف الثورات (السلمية) التي حصلت مؤخراً في أماكن عديدة في العالم، مثل جورجيا، أوكرانيا وقرغيزستان، متصلة بطريقة معقدة بنشاطات المنظمات الأمريكية غير الحكومية المختلفة. علاوة على ذلك يبدو أن نشاطات هذه المنظمات تعكس بطرق مختلفة بعض التغيرات في السياسة الخارجية ومصالح الولايات المتحدة، وبالتالي يبدو أن نجاح أو فشل مختلف الثورات يعكس هذه التغيرات أيضاً. ولهذا، على سبيل المثال، لم تسفر الاضطرابات السياسية في أوزباكستان (أيار 2005) وأزربيجان (تشرين الثاني 2005) عن مثل هذه الثورات.

هذا هو جوهر التحليل الذي قدمه سريرام شوليا في مقالته الجديدة "الدمقرطة، المنظمات غير الحكومية والثورات الملونة." لم تكن الآراء التي ظهرت في المقالة جديدة أو مفاجئة؛ كذلك الأمر بالنسبة لنبرة السخط المستخدمة في التحليل. ومع ذلك، توضح المقالة السياق الحالي "للموجة الثالثة" من الدمقرطة التي تكتسح العالم حالياً.

بيد أن المقالة، وكما هو الحال في مثل هذا التحليل، تفشل في الإشارة إلى غياب بدائل حقيقية وعملية بالنسبة لشعوب الدول المذكورة. يبدو أن الخيارات التي تمتلكها مجموعات المجتمع المدني وحركات المعارضة في تلك البلدان، العالقة بين الأنظمة الاستبدادية والمجتمعات المتداعية مصحوبة بالتدخل الخارجي المتواصل بشؤونها الداخلية، هي خيارات محدودة فعلياً. وفي الواقع، ينتهي الوضع إلى ضرورة الاختيار بين الخروج من المأزق السياسي والاجتماعي الاقتصادي بالتعاون مع قوى خارجية، أو البقاء تحت هيمنة الأنظمة الحالية غير المؤهلة.

يبدو أن البحث عن خيار ثالث هو امتياز للدول الكبيرة كالصين والهند، أو الائتلافات، كدول رابطة شعوب شرق آسيا، وليس للكيانات الممزقة المحكومة من قبل أنظمة فاسدة واستبدادية غير مؤهلة والتي تبدو منفصلة بشكل كلي عن الحقائق والتي طالما ترزح تحت وطأة التغيير حولها.

حقاً، يبدو أن بعض الدول تقفز متأخرة جداً إلى عربة التحديث والتطور، في زمن لا يزال فيه التدخل الأجنبي حقيقة يومية. ومهما تكن أسباب هذا التأخير، فهو يحدّ من خياراتها. وما لم تتمكن هذه الدول من التآلف على نمط رابطة شعوب جنوب شرق آسيا وتمكين نفسها عبر شكل من أشكال التعاون الإقليمي الاقتصادي والسياسي والتدابير الأمنية المشتركة، وهو أمر غير محتمل أبداً في ظل القيادات الحالية، فإن الخيارات الواقعية الوحيدة التي تمتلكها حركات المعارضة تميل كما يبدو إلى أن تتضمن قدراً هاماً من الدعم والتنسيق مع قوى خارجية، والولايات المتحدة على وجه التحديد.

علاوة على ذلك، لا بد أن أحد العوامل الرئيسية التي سهلت قبول هذا الخيار من جانب حركات المعارضة في آسيا الوسطى والقوقاز هو غياب المشاعر المعادية لأمريكا في الدول المذكورة، بخلاف الشرق الأوسط، حيث العداء لأمريكا متأصل في نفوس الناس، لمجموعة من الأسباب، منها الدعم السابق للأنظمة الدكتاتورية والنزاع العربي الإسرائيلي.

إن إظهار السخط من التدخل الامبريالي الأمريكي بشؤون الشعوب الأخرى هو من حق شعوب الدول التي حققت، على الأقل، درجة ما من التحديث وتبدو قادرة على توجيه هذه العملية قدماً في المستقبل المنظور. ليس الأمر كذلك في الشرق الأوسط. فليس للسخط دور هنا. ستكون جرعة مكثفة من الذرائعية والواقعية السياسية أكثر جدوى، ليس فقط بالتعامل مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي، بل وبالتعامل مع التنوع الإثني والديني والإيديولوجي الداخلي أيضاً الذي يصوغ حياة معظم دول المنطقة.

ينصح الناس غالباً بالواقعية السياسية في الولايات المتحدة، ولكنهم لا يدركون أن اعتبارات الواقعية السياسية هي الدافع الرئيسي وراء الخيارات التي تتخذها بعض حركات المعارضة السياسية في البلدان المعنية. فالمعارضة تدرك نوايا الولايات المتحدة، ولكنها تدرك أيضاً ضرورة العمل لكسر الجمود السياسي في المنطقة كخطوة أولى وضرورية للخروج من المأزق.


الأزمة الحقيقية
14 شباط، 2006 

فيما مرّت ذكرى (عاشوراء) بسلام هذه المرة في العراق، شهدت احتفالات الطائفة الشيعية في كل من باكستان وأفغانستان تفجيرات وصدامات بين السنة والشيعة أدت إلى مصرع أكثر من 30 شخص وجرح أكثر من 50.

من ناحية أخرى ما تزال الأزمة الدارفورية تتعمّق، وتشير أحدث التقارير إلى حدوث المزيد من المواجهات بين الجنجاويد والقبائل الغير عريبة أدت إلى تهجير أكثر من 70,000 مواطن في منطقة غرب دارفور، في وقت تزداد فيه وتيرة الاشتباكات بين الجيش الجنوبي والجماعات المسلحة في منطقة النيل العليا.

وفي مصر، وفي مناسبة مرور أربعين يوماً على الهجوم على معسكرات اللاجئين السودانيين في القاهرة، دعت مجموعة من منظمات المجتمع المدني المصري إلى فتح تحقيق فوري وشامل لتحديد هوية الأشخاص المسئولين عن الصدامات التي أدت إلى وقوع عشرات القتليى والجرحى في شهر كانون الثاني الماضي.

ولكن، وفي مواجهة كل هذه المآسي الإنسانية والتي تمسّ جوهر إنسانية المواطن المسلم أينما كان، ما تزال قضية نشر صحيفة دانماركية لرسوم مسيئة إلى شخص نبي الإسلام هي محور اهتمام الصحف العربية والإقليمية. والسؤال المطروح هنا: من أهم – الإنسان أم الرمز؟

فإهانة النبي، مهما بدا الفعل كبيراً لا تزيد عن كونها فعل رمزي لا تقدّم ولاتؤخّر في ميزان الأمور، في حين يمثّل القتل فعلاً ملموساً قادراً على توليد أحقاد وإثارة عداوات قد تستمر لمئات السنين، فأيهما أحقّ باحتجاج المسلمين إذن؟ وإلام هذا التضارب الصارخ في مواقف المسلمين تجاه واقعهم؟ وإلى متى يستمر تجاهل القضايا والتحديات الأساسية لحساب مسائل فرعية لا تؤدي إلاّ إلى تعميق الهوّة الحضارية التي تفصل بين المسلمين وبين شعوب العالم المتحضّر؟

أسئلة لم يعد من الحكمة تجاهلها بعد اليوم، وإن كانت الإجابة عنها تتطلّب وقفة عميقة وصادقة مع الذات من قبل جميع المعنيين بمستقبل المنطقة.

التجربة الدنماركية
6 شباط، 2006 

وتضيف الصحيفة (والحديث هنا يتعلّق بنشر كتاب مصوّر جديد لمؤلّف دنماركي) أن الرسومات المذكورة تقدم "تشويهاً للرسول صلى الله عليه وسلم، فإحداها على سبيل المثال تصوّره وهو يتأمل تعذيب اليهود في المدينة المنورة وهم يتألّمون، وأخرى له مع عائشة رضي الله عنها، وثالثة، تظهره على البراق في الإسراء والمعراج، ولم يكن البراق لدى الرسام والكاتب سوى حصان بجناحين ورأس امرأة، ورابعة، في غار حِراء ويبدو فيها جبريل عليه السلام بجناحين أيضاً... وما إلى ذلك من رسومات هدفها تشويه صورته صلى الله عليه وسلم".  العربية

أسئلة:

هل يحقّ للآخرين أن يبحثوا في تاريخنا المقدّس ويستخلصوا النتائج التي يروها "صحيحة" من وجهة نظرهم، وإن كانت تتعارض جذرياً مع آرائنا ونتائجنا الخاصة المتعلّقة بقدسية هذا التاريخ؟ وهل يحقّ لهم أن يعبّروا عن نتائجهم وآرائهم بالوسائل التي يرونها مناسبة، وإن كنا لا نراها كذلك؟ وهل يحقّ لهم أن يسخروا من معتقداتنا؟ وأن يعبّروا عن سخريتهم هذه وبكل وضوح وصراحة؟

إجابات:

نعم ونعم ونعم. لقد أعطينا الناس كل هذه الحقوق منذ أعلنا أن الإسلام دين دعوة.

بل وحتى وإن لم نعلن ذلك، يبقى البحث في تاريخ الإنسانية حقّ لجميع البشر، بغضّ النظر عن طرق تعاملهم مع هذا التاريخ وعن ميولهم الإيديولوجية المسبقة والنتائج التي قد يخلصون إليها. وفي الواقع، لقد أعطى المسلمون لأنفسهم ذات الحقوق عبر تاريخهم وحتى اللحظة الراهنة، والمكتبات الإسلامية والصحف اليومية في المنطقة مليئة بالأدلّة على صحّة هذا الادعاء.

مفارقات:

المسلمون على أتم الاستعداد لأدانة الشعب الدنماركي بأسره من أجل أفعال حفنة من الأشخاص، ولكنهم يرفضون أن يدينهم العالم بسبب أعمال حفنة من الإرهابيين. وإن كان الشعب الدنماركي قد أبدى تعاطفاً مع رساميه، فالشوارع العربية والإسلامية سبق وأن أبدت تعاطفها أيضاً مع "إرهابييها."

إن الكيل بمكيالين عادة سيئة عند كل البشر فيما يبدو، لأن عملية الكيل هنا لا تستند أبداً إلى معايير حيادية بل إلى معايير المصالح المتغيرة والمتطورة باستمرار.

من ناحية أخرى، يبدو قرار مقاطعة البضائع الدنماركية، وبصرف النظر عما إذا كان يستند إلى استنتاجات صحيحة أم لا، أكثر إقناعاً وتحضّراً كردة فعل إزاء هذا الأمر. لكن تبنّي هذا الموقف يدلّ على وجود اختلاف جوهري في القيم والقناعات بين الطرفين.

فالطرف الأول يفضّل أن يضع حرية الرأي والتعبير في المقام الأول بناءاً على كون صوت الشعب هو صوت الله، بينما يحجز الطرف الثاني هذا المقام لقدسية قناعاته الخاصة على أساس أن صوت الله، في معتقداته، يبقى دائماً فوق صوت البشر.

وفي ذات الوقت، لا يخجل أئمة الظلام في الجوامع الغربية، بما فيها بعض من مساجد الدنمارك، أن يستغلّوا حرية التعبير المتوفّرة هناك لكي يبثّوا سمومهم الخاصة. ولعلّ الظلامي المعروف أبو حمزة خير مثال على ذلك. مرة أخرى الكيل بمكيالين استناداً على المعايير والمصالح الخاصة للطرف الكائل.

وبالعودة إلى الكتاب المذكور أعلاه، ربما كان من المجدي أن ننوّه هنا على أن الكتاب يهدف إلى التعريف بالإسلام، من وجهة نظر غير محايدة ربما، ولكن بالاستناد إلى حوادث تاريخية مذكورة في "أمهات" المصادر الإسلامية، كمذبحة بني قريظة مثلاً. وإذا كان تاريخ المسلمين، بما فيه ذلك القسم المقدس منه، يذخر بأحداث ينعكس بعضها سلباً على الإسلام، فأن محاولة التملّص من المسئولية عن هذه الأحداث من خلال الادعاء أن رسومات الكتاب بحد ذاتها تهدف إلى "تشويه صورته صلى الله عليه وسلم"، تنمّ عن جبن وخبث شديدين. مرة ثالثة الكيل بمكيالين استناداً على أن قلّة من العرب والمسلمين فقط يمكن لهم الاطلاع على الكتاب المؤلّف بالدنماركية.

أما أن يتنطّع مسئول سوري، وبالتحديد الوزيرة بثينة شعبان، وينذر العالم بأن هولوكوست (2) تعد اليوم ضد المسلمين في أوروبة، فهنا تتجلّى سياسة الكيل بمكيالين بأوضح حِلَلِها. إذ كيف يمكن لممثلة لنظام شمولي وإجرامي كالنظام السوري الذي سبق له وقتل عشرات الألوف من المسلمين من أبناء بلده، غير أولئك الذين تمّت تصفيتهم بشكل مباشر وغير مباشر في لبنان، أن تتكلّم بأي مصداقية عن الاضطهاد؟

لكن للنظام السوري مصلحة واضحة في هذه المرحلة تستدعي، من ناحية، أن يتمّ تجييش المسلمين، السنة منهم على وجه الخصوص، لصالحه ، في حين يتمّ لفت أنظار العالم، من ناحية أخرى، إلى مدى خطورة التيار الديني في المنطقة وإلى ضرورة الحفاظ على النظام السوري، إن لم نقل دعمه، كحاجز رادع في وجه انتشار التيار الأصولي المتشدّد في المنطقة.
مرة رابعة إذاً، يتم الكيل بمكيالين من أجل مصالح فئوية ضيقة، لنظام متهالك.

وإن كان المسلمون، على حد تعبير شعبان، "ليست لديهم عقدة الذنب للتكفيرعنها تجاه الشعوب الأخرى،" فهذا الواقع هو في الحقيقة جوهر مأساة المسلمين المعاصرة: أنهم لا يحسّون بالآخر، ولا يحترمون حقوقه، ولم يجرؤا بعد على القيام بمراجعة وبتقييم شاملين وحقيقيين، خاصة على المستوى الشعبي، لتاريخهم المقدّس لكي يتحرّوا مواقع الخطأ فيه، ويواجهوها.

وفي هذا قمة التهرّب من الواقع والكيل بأكثر من مكيال. وفي هذا الموقف أيضاً تتبدّى لنا الفجوة الحضارية التي تفصل العرب والمسلمين عن العالم في أوضج تجلّياتها، فهم يريدون للآخرين أن يحترموهم ويحترموا حقوقهم ومبادئهم، لكنهم لم يقوموا بعد بتبنّي أي من تلك المواقف التي يمكن لها أن تمهّد لحدوث ذلك، فهم ما زالوا عاجزين عن ابداء ذات التفهّم الذي يطالبوا الآخرين به. (هناك استثناءات لهذا الموقف بالطبع، لكنها تبقى فردية الطابع).
إن التجربة الاستعمارية التي تعرّض لها المسلمون خلال القرن الماضي، وفي بعض الحالات خلال القرون الماضية، والتمييز الذي تتعرّض له الجاليات المسلمة في الغرب اليوم، وانتشار الأنماط المقولبة المتعلّقة بالمسلمين في الصحف العالمية، لا يمكن لها أن تعفي المسلمين من القيام من مواجهات من هذا النوع.

لقد أصبح هذا التهرّب ممجّاً إلى أبعد حدود، و هو السبب الأساسي لقوى العطالة في مجتمعنا والتي "تجذب" الآخرين إلينا بنفعهم وضررهم، وربما يكون الضرر أكبر في الواقع.
إذ عندما يقوم الغرب بالكيل بمكيالين ويؤدي ذلك إلى حالة تصادمية له مع واقعنا، فإنه يفعل ذلك لصالح قوى وتفاعلات حركية خاصة فيه، أما نحن فنقوم بذلك لصالح قوى العطالة فينا. وبالتالي يتغير هو متعثّراً نحو الأمام، أما نحن فلا نتعثّر إلا نحو الوراء، وذلك باستثناء بعض الحالات الفردية.